هل تكون مفاجأة لحضراتكم لو قلت لكم إن العالم فوجئ بأن هناك فيلماً مسيئاً للرسول وأنه استهجن ما يفعله بعض المسلمين أكثر من استهجانه للفيلم نفسه؟ وهل يكون من قبيل المفاجأة أيضاً أن العالم لم يكن يعلم بهذا الفيلم إلا بعد الاحتجاجات التى بدأت فى مصر وليبيا وتونس ومنها انتقلت إلى السودان واليمن وباكستان وبنجلاديش ثم إلى عدد من العواصم الأخرى غير الإسلامية على نحو جعلنا نقوم بدعاية مجانية لفيلم يسىء لنا. وأزعم أنه لو كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حياً لتعجب مما يفعله أتباعه به وبدينهم.

على سبيل المثال: صحيفة Japan Times كتبت تعليقاً يشير إلى أن العالم استيقظ فجأة ليس على جريمة سبّ النبى محمد، وإنما على الدعاية المجانية التى قام بها الكثير من المسلمين لمن يسبون النبى الذى يؤمنون برسالته.

وكلام الصحيفة دقيق، حيث إن الفيلم كان متاحاً على الإنترنت منذ يوليو الماضى، ولم يكن قد شاهده أكثر من تسعة آلاف مواطن حتى تحول بعد ثلاثة أيام من موجة الاحتجاجات إلى أن شاهده أكثر من ثلاثة عشر مليون شخص. بل إن صحيفة الصنداى تليغراف البريطانية أشارت إلى أن أغلب الناس لم تكن تعرف أن هناك فيلماً يحمل إساءة إلى النبى محمد والمسلمين إلا عندما عرضه أحد الدعاة المصريين فى برنامجه وطالب بالقصاص من صانعيه. وفى زعمى أن هذه هى الجريمة الكاملة: يصنع أحدهم سُمَّاً ويضعه فى زجاجة على باب المنزل، يأخذ طفل السم فيضعه فى الطعام ظناً منه أنه يحسن صنعاً، ليقتل كل من فى البيت.

وهو ما قالته الصحيفة اليابانية: «لم نكن لنلتفت لهذا الفيلم، لولا أنه ارتبط بهذا الكم من الاحتجاجات».

من الدين إلى السياسة

لكن هذا الفيلم فتح باباً لنقاش أوسع فى دوائر بيوت الخبرة ومراكز التفكير الغربية لتعقد ندوات على عجل لتسأل سؤالاً بالغ الأهمية: هل ساعدنا عدوَّنا فى الوصول إلى السلطة؟

بل إن صحيفة التايمز البريطانية سألت نفس السؤال بعد يومين من اغتيال السفير الأمريكى وثلاثة من مساعديه فى ليبيا: هل تحول «الربيع العربى» إلى «خريف عربى»؟ هل ساعدنا أعداءنا كى يصلوا إلى السلطة فى بلدان الربيع المتحول إلى خريف دامٍ فى بلدان العرب؟

وتشير مجلة فورين بوليسى الأمريكية إلى أن المنطقة تزداد يمينية؛ واليمينية فى الشرق الأوسط عادة ترتبط بالمزيد من الحَرْفية والتطرف فى تفسير النصوص الدينية وصولاً إلى استخدام العنف للدفاع عن هذه التفسيرات، بل ربما تكون مقدمة لتكوين نظم فاشية دينية من وجهة نظر المجلة. إن الخوف يتصاعد حين تربط هذه المراكز والصحف بين نتائج الانتخابات والخوف من أن تنقلب المعادلة: بدلاً من أن تكون الولايات المتحدة عدوة للشعوب وصديقة للحكومات مثلما كان فى السابق، ستتحول الولايات المتحدة إلى عدوة للشعوب وعدوة للحكومات أيضاً.

ولم تبعد صحيفة اللوموند الفرنسية عن نفس المنطق فى التناول لتوضح أن ردود الفعل العربية والباكستانية لم تكن بعيدة عن فتوى إيرانية جديدة ترفع جائزة قتل سلمان رشدى إلى 3.3 مليون دولار بعد الأحداث التى أطلقها الفيلم المسىء للإسلام بما يعنى أن العالم الإسلامى لا يفوّت فرصة لكى يرفع شعارات دينية فى مواجهة الغرب.

كل ما سبق هو رصد لما كان، والسؤال الآن هو كيف يمكن لنا العبور مما نحن فيه إلى واقع أفضل؟

أولاً، لا بد أن نتجنب مزالق «تفخيخ» العلاقات بين دولنا والعالم الخارجى. هم بحاجة إلينا ونحن بحاجة إليهم أيضاً، وهناك من لا يريد لهذا الاعتماد المتبادل أن يتم، وإنما أن تظل صورة العداء المتبادل هى السائدة بين الطرفين. وقد سبقت الإشارة إلى أن مقولة نُسبت إلى أحد قيادات جهاز المخابرات السوفيتى فى مطلع الخمسينات حين أشار: «غباء هتلر تمثل فى أنه أراد أن يحارب الجميع: الفرنسيين، الإنجليز، الأمريكان، الروس. قمة الذكاء أن نجعل أعداءنا يحاربون بعضهم بعضاً دون أن نحاربهم نحن». وقد التقطت أجهزة المخابرات الأمريكية هذه الإشارة وكتبت تقريراً مصغراً تحت عنوان: «تفخيخ علاقات الولايات المتحدة بحلفائها: ماذا يمكن أن نفعل؟»

وقُدم التقرير آنذاك للرئيس أيزنهاور الذى قام بتكليف مجموعة من الاستخبراتيين وأساتذة العلاقات الدولية للبحث فى كيفية مواجهة المؤامرات السوفيتية. وبعد عدة محاولات كان القرار أن يرتفع مستوى العلاقة بين الولايات المتحدة وحلفائها كى تصبح علاقة «تحالف استراتيجى»، والسر فى هذا أن تكون عمليات التنسيق بين أجهزة صنع القرار من القوة والسرعة بحيث يصعب تفخيخها أو النيل منها.

إذن، فكرة التفخيخ جزء من العلاقات الدولية، وله طرقه التى يحسنها هؤلاء. والعلاقات العصية على التفخيخ يكون الحل معها بتوثيق العلاقات لتصبح «تحالفاً استراتيجياً» وهو ما يبدو أنه اهتز بشدة فى أعقاب هذه الاحتجاجات على فيلم وصفته هيلارى كلينتون أنها أو حكومتها حتى لم تكن تعلم بوجوده.

ثانياً، خسائر الغضب غير المنضبط عادة تكون كبيرة ولها تداعيات طويلة المدى؛ فمن المثير للتأمل أن أعمال الشغب التى تعرضت لها السفارة الأمريكية فى القاهرة حصلت عندما كان وفد تجارى أمريكى يعقد مؤتمراً صحفياً ختامياً فى مصر. وكان هدفه إقناع مديرى الشركات الأمريكية بأن مصر جاهزة للاستثمارات. هل ستأتى هذه الاستثمارات بنفس القدر وبنفس السرعة؟ أشك.

وبالمثل، فإن السفير الأمريكى كريستوفر سيفنز الذى لفظ أنفاسه الأخيرة فى مستشفى بنغازى كان ينوى زيارة المستشفى ذاته بعد أقل من اثنى عشر ساعة بهدف تشجيع شراكة بينه وبين المستشفيات الأمريكية.

ثالثاً، مثل هذه الأحداث الدامية والغضب غير المنضبط يخلق صورة ذهنية عصية على التغيير، فالصورة الذهنية الناصعة عن الثورة المصرية مثلاً بدأت تتراجع؛ حيث كان الافتراض أن الثورات التى شهدتها بلدان الربيع العربى كانت تسعى إلى تمكين الشعوب من السلطة لكن هذا السيناريو بات فى خطر بسبب وجود صورة أخرى وهى احتمال انزلاق تلك البلدان إلى «حكم الدهماء» فى غياب قيادة قوية.

رابعاً، مثل هذه الأحداث تكون عادة اختباراً لمدى قدرة القيادات السياسية على حسن إدارة الأزمات والتفاعل مع المستجدات؛ فالصورة الذهنية التى تكوّنت عن الدكتور مرسى قبل أحداث الاحتجاج أمام السفارة الأمريكية والتى كانت تنقلها عدسات التليفزيونات الغربية على الهواء مباشرة مثل مباريات الكرة، هذه الصورة الذهنية تغيرت لحد ما مع الهجوم على السفارة الأمريكية بسبب ما وصفته دوائر غربية بأنه «رد فعل اتسم بالفتور» لأنه أدان الفيلم التحريضى قبل أن ينتقد العنف الذى تعرضت له السفارة الأمريكية فى القاهرة علماً بأن الشرطة كان من واجبها أن تحول دون وقوع العنف أصلاً، وأنه أدان الفيلم فقط خلال زيارة إلى بروكسل كان يهدف من ورائها إلى الحصول على قرض بقيمة مليار دولار أمريكى.

خامسا، لا بد من التفرقة بين الأسباب الأصيلة والأسباب المباشرة للغضب. إن دوامة الاحتجاجات العنيفة المناهضة للغرب بين العرب والمسلمين ليست نابعة فقط من الحملة الدعائية التى حاول الفيلم والرسوم الكاريكاتورية بثها ضد الإسلام وأهم رموزه. إن هذه الدوامة لها علاقة بعقود من الإمبريالية الغربية والدور السلبى الذى لعبته دول الغرب فى دعم حكومات مستبدة والاحتلال الإسرائيلى من ناحية، والمهارات التنظيمية لبعض القوى المتطرفة دينياً فى المنطقة. وعليه فإن المنطقة لم تزل مهددة بموجات من العنف ينبغى غلق الطريق عليها عبر العودة إلى أصول المشكلات وعلى رأسها الصراع العربى الإسرائيلى. ويبدو أن أوباما له رغبة حقيقية فى فتح هذا الملف حال فوزه بالانتخابات الجديدة بأن يرفع دعم بلاده لإسرائيل إذا لم تستجب لاستحقاقات السلام وحل الدولتين. وهو ما يقتضى منا أن نساعده فيه وأن نحثه عليه للتخلص من أصل الداء.

سادساً، المسلمون ليسوا بدعاً من شعوب الأرض، فبالعودة إلى عدد الأفلام التى أُنتجت عن الأنبياء والأديان الأخرى والتى لاقت رفضاً من أتباع هذه الديانات يتأكد أن السعى لإهانة الرموز الدينية ستستمر، ولكن علينا ألا نحولها إلى مناسبة لإثبات صحة الأكاذيب التى تقال عنا. ولنتذكر فيلم «الإغواء الأخير للمسيح The Last Temptation of Christ» و«حياة براين Life of Brian» وكلاهما يسخر من نبى المسيحية، وكذلك فيلم «مياه Water» وهو فيلم كندى يروى قصة أرامل هندوسيات وحظى بانتقادات واسعة من الهندوس لأنه ينتقد بعض التقاليد الهندوسية. وستستمر هذه النزعة لدى البعض ممن يرون أن دورهم تقديم صورة مغايرة عن الأديان التى يؤمن بها آخرون.

سابعاً، ليس كل ما ينتجه الغرب من أعمال درامية أو تعبيرية هو جزء من مؤامرات حكومية تقوم بها الدول ضد الأديان؛ هذه المجتمعات تحكم بدساتير تحض على حرية الرأى وحرية التعبير وحرية الانتقاد (حتى لو كان جائراً) تجاه الشخصيات العامة الأحياء منهم والأموات. والأنبياء والقيادات والزعامات كلها عند هؤلاء شخصيات عامة يمكن التقول عليها بما يشاء الفرد. وكلما كان رد فعلنا عنيفاً تجاه مثل هذه الأعمال، فهذا سيفتح شهيتهم للمزيد. لذا فإن الجهد الأساسى الذى ينبغى أن تقوم به الدول العربية والإسلامية هو تمرير معاهدة دولية تحترم الأديان ورموزها الأساسية وأن تطالب الدول المختلفة بالتوقيع ثم التصديق عليها.

هذه لن تكون آخر مواجهة بين الشرق والغرب بسبب محاولات البعض تفخيخ العلاقة بين الطرفين، ولكن من الحمق ألا نستفيد من أخطائنا.

0 التعليقات:

Post a Comment

 
الحصاد © 2013. All Rights Reserved. Powered by Blogger Template Created by Ezzeldin-Ahmed -