إخلاء ميدان التحرير مما علق به من شوائب لا يعنى أبدا إطلاق الرصاص عليه مثل خيل الحكومة العجوز.. ولا يجوز أن يتعامل البعض مع هذه الخطوة بنوع من التشفى والشماتة فى الميدان الذى تحول إلى قيمة مضيئة استقرت فى الوجدان المصرى.
كان رأس الميدان موضوعا دائما على لائحة التصفية المادية والمعنوية عند المجلس العسكرى وحكوماته.. ولكى لا ننسى فالذى نثر فيه هذه الشوائب والبذور السامة كان المجلس العسكرى، والأجهزة التابعة له، حين وقفوا عاجزين أمام صموده وبسالته فقرروا هدمه وتفجيره من الداخل، وحاربوا من أجل صناعة صورة كريهة ومزيفة له، بحيث يبدو فى عين المواطن العادى مكانا للفوضى والانفلات وتعطيل عجلة الإنتاج الصدئة.
إنهم هم الذين مدوا خيام الشر والبلطجة والفوضى ليزاحموا بها خيام أسر الشهداء والمصابين والثوار المعتصمين تضامنا معهم، لكى يقولوا فى النهاية إن الميدان صار عبئا على مصر، وجاءوا على أرضيته بدم كذب، فى واحدة من أبشع عمليات الاغتيال الأخلاقى لإحدى أطهر البقاع فى البلد.
والآن وبعد أن تحقق لقوات الأمن (الباسلة) ما أرادت، ورفع جنودها (البواسل) سبابتهم ووسطاهم بمنتهى البذاءة والتدنى فى وجه (أعدائهم) من أهل الميدان، حان الوقت لكى ترد الدولة الجديدة الجميل للميدان صاحب الفضل فى التغيير الذى حصل، ولن يكون ذلك باجترار هذا النشيد الساذج عن «تحرير التحرير» وليس أقل من أن تستدعى الدولة المصرية كل أصحاب الخبرات المعمارية والحضارية لكى تحول الميدان إلى معلم تاريخى يجسد أعظم ملاحم الشعب المصرى فى المائة سنة الماضية.
إن المطلوب الآن وبشكل عاجل أن تمتد يد التطوير والتجميل، لتضع مخططا حضاريا بديعا للميدان ليكون منارة تاريخية تحكى للعالم كله وللأجيال القادمة قصة ثورة انتصر فيها المصريون على القمع والفساد، وصنعوا فجرا جديدا بدماء شهدائهم وتضحيات مصابيهم، بحيث يكون فى الميدان نصب تذكارى للشهيد، وتنطق جدرانه بحدوتة الثورة المصرية الخالدة.
وفى كل دول العالم المتحضر يخلدون التاريخ بالحغرافيا، ويحتفون بالأماكن التى شهدت بطولات شعوبها، وفى أكثر من عاصمة هناك مواقع تحولت إلى درر تاريخية وثقافية لارتباطها بمحطات مهمة فى مسيرتها.
وليس أقل من أن تسارع الأجهزة الحكومية المصرية فى الدعوة لمناقصة عالمية لإعادة تخطيط وتطوير ميدان التحرير، وأن تتاح الفرصة لمبدعى مصر وفنانيها لكى يشاركوا فى صياغة المكان حضاريا، ليصبح متحفا سياسيا مفتوحا لكل السياح والزائرين من الداخل والخارج، خصوصا أن كل متر من أرض الميدان مزروع بكم هائل من الحكايات والمواقف التى روتها الدماء الزكية.
ويبقى على السادة الراقصين ابتهاجا بعملية «تحرير الميدان» أن ينتبهوا إلى أن من بين الذين كانوا حتى أول أمس من «المجاورين» للميدان أهالى لشهداء دفعوا حياتهم من أجل نجاح هذه الثورة، وكان ترددهم على الميدان سلواهم وعزاءهم الوحيد كلما استبد بهم الحنين وأخذهم الشجن إلى ملامسة الأرض التى مشى عليها أبناؤهم وبناتهم خطواتهم الأخيرة، ولا تزال رائحة دمائهم تعطر المكان.
0 التعليقات:
Post a Comment