هناك مسودات تتطور مع كل مجموعة من المقترحات الجديدة التى يقدمها أهل الرأى بشأن الدستور الجديد.
وكى نفهم أكثر ما يحويه الدستور من مواد لا بد من التفرقة بين ثلاثة أنواع من المواد: فهناك مواد الهوية والتعريف، وهناك مواد القيم والتقدير، وهناك مواد الإجراءات والترتيب. مواد الهوية والتعريف هى التى تعرف المجتمع والدولة والشعب على نحو جامع مانع، لذا يأتى نص المادة الأولى الذى يصف مصر بأنها جمهورية مستقلة ذات سيادة موحدة لا تقبل التجزئة ونظامها ديمقراطى وينتمى شعبها للأمتين العربية والإسلامية ويعتز بانتمائه لحوض النيل والقارة الأفريقية وامتداده الآسيوى، ويشارك بإيجابية فى الحضارة الإنسانية.
ومواد القيم والتقدير تعكس المبادئ والقيم التى يقدرها المجتمع مثل الحفاظ على الوحدة الوطنية وكفالة الدولة للنشء والشباب وذوى الإعاقة وأن الادخار واجب وطنى تحميه الدولة وتشجعه وتنظمه.
ويغلب عادة على مواد الهوية والتعريف ومواد القيم والتقدير الجانب الإنشائى والبلاغى لأن الهدف هو إلهاب حماس الناس ورفع درجة اعتزازهم بوطنهم وبالقيم التى يربط نفسه بها.
والحقيقة أننى فى عدد من المواد التعريفية والقيمية المذكورة بصيغتها الحالية لم أستشعر معها الانفعال الوجدانى بعد بما يعنى أن الجانب البلاغى والإنشائى لم يحقق الهدف المقصود منه بعد.
والنوع الثالث هو مواد الإجراءات والترتيبات الخاصة بتنظيم علاقات مؤسسات الدولة بعضها ببعض وعلاقة المواطنين بها. والحقيقة أن معظم دساتير العالم تبدع فى النوعين الأول والثانى من المواد على حساب الترتيبات الديمقراطية فى هذا النوع الثالث من المواد؛ فمعظم دساتير الدول الاستبدادية تضمنت الكثير من الحقوق والحريات والمثل العليا ولكنها لم تضع الأطر الإجرائية الدستورية التى تضمن الالتزام بهذه القيم والمبادئ.
وبالنظر إلى أحدث مسودة دستور جرى النقاش بشأنها يوم الخميس الماضى مساء، فإن الإنسان يجد نفسه بحاجة لإعادة النظر فى العديد من المواد المفصلية (غير الإنشائية أو البلاغية) التى سيكون لها انعكاسات مباشرة على الحقوق والحريات وعلى عملية صنع القرار والرقابة على مؤسسات الدولة. وسيركز هذا المقال على عدد من المواد المحددة فى هذا الصدد.
المادة (30) من المسودة والتى يمكن تسميتها «مادة المواطنة» والتى تنص على أن المواطنين لدى القانون سواء وأنهم متساوون فى الحقوق والواجبات، ولا تمييز بينهم فى ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أوالعقيدة أو الرأى أو الوضع الاجتماعى أو الإعاقة. وهى مادة جيدة، ولكن ما أقترحه ألا تكون هذه المادة مجرد قيمة عليا، وإنما أن تكون أساسا لمعاقبة من يخالفها بإضافة النص التالى: «وأى تمييز بينهم بالمخالفة لهذه المادة يوجب المساءلة القانونية».
المادة (129) الخاصة بتشكيل مجلس الشيوخ تظل إشكالية بالنسبة لى حيث تنص المادة على أن يتشكل مجلس الشيوخ من عدد لا يقل عن مائة وخمسين عضوا ينتخبون بالاقتراع السرى المباشر ويعين رئيس الجمهورية (عشرة أعضاء / عشرة بالمائة / أو عشرين بالمائة من إجمالى عدد الأعضاء المنتخبين. وهذا تغليب لوجهة نظر جاء من لجنة نظام الحكم فى مقابل اقتراح من لجنة الصياغة بأن تكون النسبة فى حدود 25 بالمائة. ولكل منطقه، لكن حقيقة إن أردنا أن يكون هذا المجلس فيه خبراء وعلماء ومفكرون فلا مجال للاكتفاء بالانتخاب. ولكن كذلك ترك قرار التعيين للرئيس يبدو إشكاليا لأنه من الممكن أن يعين المحاسيب والأقرباء أو تسديدا لفواتير انتخابية. إذن ما الحل؟ هناك بديلان: إما أن يكون تعيين الرئيس لأعضاء مجلس الشيوخ بناء على ترشيح مؤسسات بذاتها مثل الجامعات والهيئات القضائية والمؤسسات الرسمية بالدولة بعدد محدد ويختار من ضمنها الرئيس وألا يختار من خارجها. أو البديل الثانى أن يرشح رئيس الجمهورية مثلا ثلاثين اسما ويختار الأعضاء المنتخبون فى مجلس الشيوخ منهم عشرين اسما مثلا. وكذلك من المفيد أن يعين فى مجلس الشيوخ لدورتين متتاليتين رؤساء الجمهورية السابقون المتمتعون بحقوقهم السياسية والمدنية دون أن يحول ذلك دون محاسبتهم على أى جرائم تثبت فى حقهم أثناء توليهم رئاسة الجمهورية. ولا ينبغى أن ننسى أن رؤساء الجمهورية أشخاص يعرفون الكثير عن أسرار الدولة فمن الأولى الاستفادة بهم وربطهم أكثر بأجهزة الدولة بعد تركهم مناصبهم.
المادة (157) تتحدث عن حق ثلثى أعضاء مجلس النواب إصدار قرار اتهام لرئيس الجمهورية عن «الخيانة العظمى أو ارتكاب جناية» ورغما عن أن النص فى معظمه مقتبس من دستور «بيت الحكمة» لكن يمكن الاستدراك على هذا النص بإضافة «الخيانة العظمى أو ارتكاب جناية أو مخالفة جسيمة ومقصودة للدستور» بهدف توسيع نطاق المسئولية السياسية للرئيس إعمالا لمبدأ ألا سلطة بلا مسئولية ولا مسئولية بلا مساءلة مع استمرار النص المقترح بأن تكون محاكمة الرئيس أمام محكمة خاصة يرأسها رئيس المحكمة الدستورية العليا وعضوية رؤساء محكمة النقض ومجلس الدولة ومحكمتى استئناف القاهرة والإسكندرية ويتولى الادعاء أمامها النائب العام.
فى ما يتعلق بالمادة (203) الخاصة بتعيين رئيس الجمهورية لرؤساء الأجهزة الرقابية والهيئات المستقلة بعد موافقة أعضاء مجلس الشيوخ، فإننى أقترح أن يكون موافقة أغلبية أعضاء مجلس الشيوخ عبر عدد من جلسات الاستماع العلنية، وذلك لأهمية هذه الأجهزة الرقابية والمستقلة مثل الجهاز المركزى للمحاسبات، والبنك المركزى، والمفوضية الوطنية لمكافحة الفساد.
المادة (211) تضع سقفا زمنيا للإشراف القضائى على الانتخابات والاستفتاءات التى تديرها المفوضية الوطنية للانتخابات وهو عشر سنوات بما يعنى أن بعد عشر سنوات لن يكون هناك إشراف قضائى وهو مطلب كثير من القضاة الذين لا يريدون استمرار هذه الممارسة. ولكن ما أعتقد فى صوابه ألا نضع هذا القيد على أنفسنا وأن نضيف فقط كلمتين وهما «على الأقل» فى أعقاب «لمدة عشر سنوات» حتى يتاح لنا إن احتجنا أن نمدد العمل بالإشراف القضائى لأكثر من عشر سنوات أن نكتفى بتعديل القانون وليس تعديل الدستور.
ويبقى أخيراً الحديث عن «مجلس الدفاع الوطنى» فى المادة (195) والذى يعد استمرارا لما كان موجودا بمجلس يغلب على ظن من صاغوا مادته أنه متوازن لأن فيه ثمانية مدنيين وسبعة عسكريين. أما المدنيون فهم: رئيس الجمهورية، رئيس مجلس النواب، رئيس مجلس الشيوخ، رئيس الوزراء، وزير الخارجية، وزير المالية، وزير الداخلية، ورئيس المخابرات العامة. وأما العسكريون فهم وزير الدفاع، ورئيس أركان القوات المسلحة، مدير المخابرات العامة، قائد القوات البحرية، قائد القوات الجوية، قائد الدفاع الجوى، رئيس هيئة عمليات القوات المسلحة. وتنص المادة: «ويختص بالنظر فى الشئون الخاصة بوسائل تأمين البلاد وسلامتها، ومناقشة موازنة القوات المسلحة على أن تدرج رقما واحداً فى ميزانية الدولة، ويجب أخذ رأيه فى مشروعات القوانين المتعلقة بالقوات المسلحة».
والحقيقة أن الإنسان يتمنى أن يكون لدى مصر مجلس للأمن القومى (وهو معنى أشمل من الدفاع الوطنى) ليتكون على النحو التالى حيث يتولى رئيس الجمهورية رئاسته، بعضوية وزير الدفاع، ورئيس الأركان، ورئيس الوزراء ورئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الشيوخ ووزير الخارجية ووزير الداخلية ووزير المالية ورئيس المخابرات العامة ورئيس المخابرات الحربية ورئيس لجنة الأمن القومى بمجلس النواب، ورئيس لجنة الأمن القومى بمجلس الشيوخ. يدعو رئيس الجمهورية المجلس للانعقاد كلما دعت الضرورة، ويجوز دعوته للانعقاد من رئيس مجلس النواب فى حال خلو منصب الرئيس، ولا يكون انعقاد المجلس صحيحا فى كل الأحوال إلا بحضور ثلثى أعضائه وتصدر قراراته بأغلبية الأعضاء الحاضرين، لخطورة القرارات التى يتخذها.
على أن يختص مجلس الأمن القومى بالشئون الأمنية والقوات المسلحة واختيار قياداتها ووضع القواعد التنظيمية لعملها ويبين القانون نظام عمله واختصاصاته الأخرى.
ويؤخذ رأى هذا المجلس بشأن التدابير الدفاعية وفى حالة إعلان الحرب وعقد الصلح وموازنة الدفاع وإدارة القوات المسلحة وتنظيم العمل بها، وتلزم موافقته عند استدعاء وحدات من القوات المسلحة للقيام بمهام الأمن الداخلى وحفظ النظام أو مواجهة الكوارث الطبيعية، وذلك حتى لا تستخدم القوات المسلحة فى أى أغراض سياسية حزبية. وتناقش بنود ميزانية القوات المسلحة فى جلسة خاصة لأعضاء مجلس الأمن القومى والقيادات العليا للقوات المسلحة وأعضاء لجنة الأمن القومى فى مجلس النواب. وترفع لجنة الأمن القومى بمجلس النواب تقريرا بنتائج أعمالها للعرض على مجلس النواب فى جلسة مغلقة بما لا يخل باعتبارات الأمن القومى.
هذه الاقتراحات وغيرها لا تعنى أن مسودة الدستور غير قابلة للتطور والإضافة، ولكنها تعنى أننا بحاجة لأن ننفتح أكثر على الاقتراحات وألا نصم آذاننا عن أى مقترحات جديدة.
ختاما أقول إن أسوأ ما فى الصراع السياسى أنه يستدعى من الإنسان أسوأ ما فيه ولا يتيح للنبيل استخراج أفضل ما فيه، لذا فإن الدستور والقانون محاولة لضمان مجموعة من الحقوق والحريات والإجراءات الواجب التزامها.
0 التعليقات:
Post a Comment