بمجموعة من المواد التى تنص من جهة على رعاية الدولة للمصريين المقيمين بالخارج، وعلى منحها حق الالتجاء لكل أجنبى بسبب حرمانه فى بلاده من الحقوق والحريات التى يكفلها الدستور، وتقرر من جهة أخرى مبادئ كاستقلال القضاء وحصانة القضاة وإجبارية التجنيد وحماية البيئة، ينتهى باب الحقوق والحريات، الباب الثانى فى مسودة الدستور. وبينما يستحق إقرار حق الالتجاء للأجانب المضطهدين فى بلادهم الإشادة، تتسم الإشارة لحماية البيئة بالضعف والعمومية الشديدين ويغلق النص على كون التجنيد إجبارياً المجال أمام نقاش مجتمعى أراه ضرورياً بشأن إمكانية الجمع بين التجنيد والخدمة المدنية العامة (وهى يمكن إن تتحول إلى أداة تنموية رئيسية، على سبيل المثال كأن يؤدى بعض خريجى الجامعات خدمة مدنية فى فصول لمحو الأمية على امتداد الوطن) وتخيير المواطنين الذكور بين المسارين وعلى نحو لا يضر بالأمن القومى.
نعم تستحق مادة حق الالتجاء الإشادة، شأنها شأن مواد سبقتها فى باب الحقوق والحريات أطلقت وحمت العمل الحزبى والأهلى والنقابى. إلا أن تقييد حرية الاعتقاد دستورياً (عبر قصر بناء دور العبادة على أتباع الأديان السماوية وإقصاء غيرهم) والعصف بقاعدة مساواة المرأة مع الرجل وبحقوق الطفل والامتناع عن حظر عمالة الأطفال وحظر الاتجار بالبشر، لا يمكن إزاء حضورها الطاغى على الباب الثانى فى مسودة الدستور إلا رفضه والمطالبة الجادة بتغييره جذرياً.
لن يختلف التقييم السلبى للباب الثانى بالنظر إلى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، التعليم والصحة والعمل والمسكن الملائم والبيئة الآمنة بكل مضامينها والضمان والتأمين الاجتماعى، وهى حقوق لا تحميها المسودة الحالية إلا جزئياً، وتعجز من ثم عن دفع مصر باتجاه مجتمع عادل عماده الحرية والمساواة وتكافؤ الفرص والمسئولية التضامنية للمواطنات والمواطنين.
لن يختلف التقييم السلبى إن طالعنا اللغة المطاطية المستخدمة فى مواد حريات الرأى والفكر والإبداع وتوظيف مفردات يصعب تعريفها بانضباط دستورى كالإساءة والتعرض للتراث الثقافى الوطنى (هنا وعلى الهامش حذفت من مسودة 24 أكتوبر الإشارة لتنوع التراث الثقافى التى حوتها مسودة 14 أكتوبر) على نحو سيقيد فى الممارسة الواقعية حرياتنا الشخصية والمدنية.
لن يختلف التقييم السلبى حين قراءة الباب الثانى انطلاقاً من المواثيق والعهود الدولية للحقوق والحريات الملزمة، من مناهضة التعذيب وكافة أشكال التمييز ضد المرأة إلى حظر الاتجار بالبشر وعمالة الأطفال وحماية كرامة وحرمة جسد الإنسان، فضلاً عن حريات الرأى والفكر والإبداع. فالكثير من نصوص هذه المواثيق يهمش فى الباب الثانى، ويدافع أعضاء التأسيسية المنتمون للإسلام السياسى عن ذلك بالاستراتيجية المعتادة، التفزيع من خطر مخالفة الشريعة المتوهم، وباتهام معارضيهم بهدف القضاء على مصداقيتهم باستخدام المواثيق الدولية لتقنين ظواهر كزواج المثليين والعلاقات الجنسية خارج إطار الزواج (بيان جماعة الإخوان وخطب وتصريحات السلفيين التى لا تنقطع).
أسعدتنى فعلاً مادة حق الالتجاء، إلا أن السؤال المشروع وإزاء الانتقاص المنظم من حقوقنا وحرياتنا الذى يحمله الباب الثانى يصبح هل سيريد أى أجنبى محروم فى بلاده من الحقوق والحريات السياسية أن يلتجئ لمصر لكى يحرم من الحقوق والحريات الشخصية والمدنية؟ هل ستريد مواطنة غير مصرية، سورية مثلاً، تضطهد فى بلادها أن تلتجئ لمصر لكى لا تسافر إلا بإذن زوجها أو ترى ابنتها القاصر تتزوج؟ هل سيريد أجنبى مضطهد ويبحث عن الحرية والمساواة والعدالة أن يأتى لنا ودستورنا يقنن عمالة الأطفال ولا يحظر الاتجار بالبشر؟ أغلب الظن، لا.
باب أول به لغة استعراضية ومدعية للأخلاقية ويحتاج لتعديلات جذرية، وباب ثانٍ به عصف بالحقوق والحريات وانتقص منها ولا يمكن لذا إلا أن يرفض، وبالغد إن شاء الله نتابع قراءتنا لمسودة الدستور فى بابها الثالث المعنى بالسلطات العامة.
0 التعليقات:
Post a Comment