ما أشبه الليلة بالبارحة، بل ما أسوأ الليلة من البارحة، حيث يأتى هذا الأسبوع من نوفمبر 2012 صورة طبق الأصل من الأسبوع ذاته فى نوفمبر 2011.
فى مثل هذا الوقت من العام الماضى كانت مصر تتخبط فى بعضها، وكأنها فى سباق سيارات كهربائية طائشة فى مدينة ملاهى عملاقة، كأنها نسيت ملامحها وجذورها الثقافية والاجتماعية، وكان الاشتباك فى ذلك الوقت ينبعث من العناوين ذاتها التى يجرى بها الاشتباك الآن.
إن أحدا لا يريد أن يتعلم أن حركة التاريخ أقوى ورسوخ الجغرافيا الاجتماعية أقوى من أوهام تعشش فى عقول فريق من البشر، فقد خاب الذين قالوا «مصر مش تونس» ولن يفلح الذين يريدون أن يقنعوا الناس بأن «مصر مش مصر»
وقد كتبت فى ذلك الوقت فى هذه المساحة تحت عنوان «مصر العمياء» لاكتشف الآن أننا لم نغادر لحظة نوفمبر 2011، إذ المتغير الوحيد هو اسم الوثيقة، ففى العام الماضى كانت العركة على «وثيقة السلمى» وفى هذا العام تتواصل العركة حول «وثيقة الدستور» وفى الحالتين لا يزال شعار «لا للمبادئ» مرفوعا.. وربما تكون فى الإعادة بعض إفادة:
تبدو مصر فى هذه اللحظة وكأنها تلفظ كل سمات الجمال والرقى فيها، وتلقى بنفسها إلى جحيم مستعر، على نحو يأخذك إلى تلك الحالة البدائية التى كانت فيها شعوب ما قبل الحضارة تعيش ما عرف بحرب الكل ضد الكل.
وإذا كانت الشعوب القديمة قد تغلبت على عصور الظلام بالتوصل إلى عقد اجتماعى يحفظها من الفناء، فإن مصر لم تكن فى حاجة إلى الوصول بسرعة إلى عقد اجتماعى جديد أكثر من الآن.
وانظر حولك وتأمل: معارك دموية بين قبائل، وحروب أهلية بين قرى، واشتباكات طاحنة بين قوى سياسية من المفترض أنها خارجة للتو من حالة توحد واصطفاف أزالت رأس نظام فاسد، بثورة قيل فى وصفها شعر وأذهلت العالم، ورغم ذلك ما إن فرغ رفاق الأمس القريب من إسقاط الديكتاتور، حتى استداروا يحاربون أنفسهم بمنتهى الشراسة، على نحو أساء لهم وللثورة ذاتها، ومنح الفرصة لذيول النظام الساقط لكى يحتشدوا من جديد برعاية حكومية، ويتأهبون للانقضاض.
ولو تأملت فى حالة التراشق المخيفة بشأن وثيقة على السلمى، ستكتشف أن الصراع يدور بمنطق «كل يغنى على ليلاه» فكل فصيل يرفض أو يؤيد الوثيقة من وجهة نظره الخاصة الضيقة فقط، وليس انطلاقا من المصلحة القومية العليا، وكما قلت فى هذا المكان أكثر من مرة إنهم مثل مجموعة العميان فى قصة الفيلسوف فولتير الشهيرة، حين أدخلوهم إلى غرفة مظلمة فيها فيل ضخم وطلبوا من كل طرف أن يصف هذا الكائن، فالذى لمس جانبه قال إنه جدار، فيما قال الذى لمس رجله إنه شجرة كبيرة، ومن وضع يده على الخرطوم قال إنه ثعبان، وهكذا، لم ينجح العميان فى إدراك وجود الفيل.
وشىء من ذلك يحدث مع وثيقة على السلمى، وحدث قبل ذلك فى الاستفتاء على تعديل الدستور، والنتيجة أن مصر تتخبط فى غرفة مظلمة، يصطدم الجميع بالجميع، ويتصارع الكل ضد الكل، بما يجعلك تضع يديك على قلبك ذعرا من سيناريو كابوسى ندعو الله ألا يتحقق فى الانتخابات المقبلة.
والحاصل أن مرحلة ما بعد ثورة يناير أديرت بشكل عشوائى متخبط، ومن الطبيعى عندما تكون المقدمات فاسدة أن تأتى النتائج أكثر فسادا.
إنه المنطق ذاته الذى كانت تبنى به العمارات الشاهقة على غير أساس صلب فى عصور الفساد، والنتيجة الحتمية هى انهيارها على رءوس سكانها.. ومن أسف أن البناء تم على أرض رخوة وبمواد تالفة وغير مطابقة للمواصفات، ومع ذلك يقف المقاول مختالا بعبقريته وإنجازاته المدمرة.. لك الله يا مصر.
0 التعليقات:
Post a Comment