على صفحة كاملة تمدد القيادى الإسلامى وحاكمنا جميعا بعدما اعتبر الديمقراطية حراما، ونظامنا فاقدا للشرعية، وطالب الرئيس محمد مرسى بالتوبة، ورغم أنه لم يكفرنا بصريح العبارة، لكنه أطلق علينا أوصافا إذا جمعت على بعضها البعض فإنها تضعنا على باب المروق من الملة، لكنه تلطف بنا وفتح الباب لتعزيرنا، ومن ثم أنقذنا من حد الردة الذى يتحدث عنه البعض. سألت من أعرف من القادة التاريخيين لجماعتى الجهاد والجماعة الإسلامية، خصوصا أن الاسم كان جديدا علىّ وسمعت به لأول مرة. فقالوا لى إن صاحبنا هذا ليس قياديا ولا يحزنون، ولكنه قضى ثلاثة أرباع عمره بين السجون والمنافى، وحين عاد ظهر فى الساحة بعد الثورة والتف حوله بعض معارفه الذين لا يزيد عددهم فى كل مصر على خمسين نفرا ـ من بين 90 مليونا ـ فاعتبر الشلة جماعة ونصب نفسه قائدا لها. إلى هنا والأمر مفهوم ويمكن احتماله، لكن الغريب فى الأمر أن يضفى عليه هذا الوضع شرعية فى وسائل الإعلام، التى باتت تنقل آراءه العجيبة وتبرزها فى عناوين عريضة، ثم يستشهد بها فى كتابات بعض المعلقين المتربصين، الذين يهللون لكل ما هو مفزع ومخيف من آراء الملتحين بعدما صاروا «نجوما» فى برامج الفضائيات. إذ باتوا يستضافون ويتنافس عليهم المعدون للإيقاع بهم وتحويلهم إلى «فزاعات» تثير القلق والخوف كما تتحول إلى مادة للسخرية والتندر.
من نلوم؟ من قدم نفسه بحسبانه مرجعا له حق توجيه الأمة وقاضيا يوزع الاتهامات ويصدر أحكام الإدانة؟ أم وسائل الإعلام التى يتراوح موقفها بين السعى وراء الإثارة وبين الحرص على إشاعة الخوف والقلق بكل السبل؟ إذ لك أن تقدر موقف صاحبنا الذى أمضى حياته مطاردا، وموزعا بين السراديب والزنازين، حتى أمضى سنين طوالا فى الظلام ولم ير النور أو ضوء الشمس. وطوال تلك السنوات فإنه لم ير فينا إلا أننا أناس نتقلب بين العصيان والفسوق والكفر. ثم فجأة وجد الرجل نفسه فى بؤرة الضوء، ومطلوبا من جانب وسائل الإعلام لكى يتحدث فى مصير البلد ويفتى فى أمور الدين والدنيا. فى المقابل فلابد أن يستوقفك موقف وسائل الإعلام التى لم يعد يشغلها سوى أحداث الصخب والفرقعات الصحفية، أيا كان مصدرها، وبصرف النظر عما إذا كانت حقيقية أو وهمية. وهى فى سبيل ذلك لا تبذل جهدا للتعرف عن وزن المصدر الذى تخاطبه، حيث الفرقعة أهم من صدق المعلومة وإثارة الرأى العام أهم من تنويره وإذكاء وعيه. وإذا افترضنا مجرد الإهمال الذى يقع بحسن نية من جانب أولئك الساعين إلى الإثارة، فإن ذلك لا يلغى دور الآخرين من المتربصين الذين يتصيدون الكلام فيهولون فيه ويزيدون عليه. لإشعال أكبر قدر من الحرائق والفتن.
قبل أن أجيب عن السؤال الذى طرحته، ألفت النظر إلى مشكلة الألقاب والأوصاف الفضفاضة والمجانية التى أشاعتها وسائل الإعلام المصرية بيننا بعد الثورة. إذ الأمر ليس مقصورا على «القياديين» الذين لا نعرف شيئا عن مظاهر وصلاحيات القيادة التى يمارسونها، ولا عن هوية أو حجم الأتباع والصحاب الذين يشكلون القاعدة التى يمثلها ذلك القائد. فالقياديون فى الساحة الإسلامية. أقل ممن يوصفون بأنهم «نشطاء» أو «مدونون» ومن الأولين من شارك فى مظاهرة بأحد الميادين، ومن المدونين من كتب سطرا أو سطرين على تويتر أو على أحد الجدران. وذلك كله يهون إلى جانب سيل فقهاء القانون والخبراء الاستراتيجيون الذين باتوا يطلون علينا كل يوم بفتاواهم وآرائهم فيما تنشره الصحف أو تبثه القنوات الفضائية. وبين هؤلاء وهؤلاء من لم يضف شيئا إلى ما تعلمه فى كليات الحقوق أو من لا تزيد معلوماته الاستراتيجية عما يقرؤه كل أحد فى صحف الصباح. أو عما حصله قبل ربع قرن فى الكلية الحربية أو كلية القادة والأركان على أحسن الفروض.
أيا كان حجم الصدمة فى هذه الخلفية، فلا ينبغى أن تفاجئنا كثيرا، لأن ذلك الهرج يظل جزءا من فوضى فترات الانتقال. ولدينا فى مصر الآن حالة من الفوضى تخفف من وطأة الصدمة، إذ طالما نحن بحاجة إلى بعض الوقت للشعور بالاستقرار فى الأوضاع الأمنية والاقتصادية، فالأمر ينسحب أيضا على الساحة الفكرية والسياسية، وقد تعلمنا أن الزبد يذهب جفاء وأن ما ينفع الناس وحده هو الذى يمكث فى الأرض.
إذا حصرنا أنفسنا فى الساحة الإسلامية التى تشكل المصدر الأكبر للإثارة وعدنا إلى إجابة السؤال: من الملوم، فإننى أزعم أن الطرفين يستحقان اللوم ولكن نصيب وسائل الإعلام منه أكبر ـ لماذا؟ ـ لأننى أتصور أن أى ناشط إسلامى ـ حتى وإن لم يكن قياديا ـ يدخل إلى الساحة بعد انفصال دام عدة عقود، عليه أن يتروى وأن يستوعب الواقع الذى انفصل عنه، ولا يستدرج بسهولة أمام أى محاولة للإيقاع به أو استخدامه فى الصراعات الداخلية. وفيما علمت فإن بعض الراشدين فطنوا إلى ذلك، وطلبوا من بعض زملائهم الذين تورطوا فى الاستدراج أن يلتزموا الصمت لبعض الوقت. ومنهم من التزم بذلك فعلا. إلا أن هناك آخرين كثيرين لا يزالون مفتونين بالظهور الإعلامى.
إذا سألتنى لماذا حملت وسائل الإعلام المسئولية الأكبر.. فردى أن ترديد القياديين للأفكار المشوهة والصادمة راجع إلى سوء فهم وجهل بالواقع ويتم بحسن نية فى كل أحواله. أما تسابق الإعلاميين على نقل تلك الأفكار وتخويف الناس بها فهو إما راجع إلى سوء أداء مهنى فرط فى مسئولية الكلمة وقدم الإثارة على الحقيقة، أو أنه راجع إلى سوء نية مبيتة قصد الترويع والتخويف. وهو ما يجعل الوِزر أكبر فى الحالتين.
0 التعليقات:
Post a Comment