ما زلت مع الأعمال الأدبية التى تفكك بنية وثقافة السلطوية وتعالجها بتوجه نقدى يهدف إلى التغيير وغرس قيم الحرية والحق فى الاختيار والتسامح وقبول الآخر. وأتناول اليوم من خلال عمل روائى مبهر الأدب فى مجتمعات الانتقال الديمقراطى. أقفز، بعد «تحت الإطار» الذى كتبه الألمانى هيرمان هيسه فى بدايات القرن العشرين، أكثر من مائة عام إلى الأمام مع رواية للأديبة الجنوب أفريقية نادين جوردايمر (ولدت فى عام 1923 وحصلت على جائزة نوبل للأدب فى عام 1991).
«الحاضر الذى لا يشبهه زمن آخر» هو عنوان رواية جوردايمر التى نشرت العام الماضى (2012) وبها تشرح الواقع الإنسانى والمجتمعى والسياسى فى جنوب أفريقيا بعد سقوط نظام الفصل العنصرى. سيدة أفريقية (جابوليله) ورجل من أصول أوروبية (ستيف) هاجرا من جنوب أفريقيا زمن الفصل العنصرى، السيدة بحثت عن فرصة للحياة والرجل لدفاعه عن المساواة الذى عرضه للتعقب والاضطهاد، تحابا وتزوجا فى المهجر وارتكبا بذلك جريمة وفقاً للقوانين العنصرية فى جنوب أفريقيا التى كانت تحظر زواج «البيض» من «السود» أو «الملونين»، وعاشا معاً فى السر، عادا للحياة وللعلن فى وطنهما بعد الإفراج عن نيلسون مانديلا وبدء التحولات الديمقراطية التى أسقطت نظام الفصل العنصرى وأقرت مبدأ المساواة بين مختلف الأجناس والأعراق.
عن التشوهات النفسية التى أحدثتها العنصرية بالزوجين وبالمحيطين بهما، عن حياتهما فى وطن تتصارع به نوازع الانتقام والثأر مع الرغبة العاقلة فى المصالحة وتجاوز ماضى العنف والقمع، عن مواجهتهما للفساد المستشرى ولاضطهاد النساء ولنظام الفصل العنصرى الجديد بين الأغنياء والفقراء.
تدور رواية جوردايمر وترسم لنا صورة دقيقة التفاصيل لمجتمع مضطرب ولبشر وإن عانوا لا يفقدون الثقة فى المستقبل الأفضل.
يقدم «الحاضر الذى لا يشبهه زمن آخر» توثيقاً روائياً رائعاً لمرحلة إنهاء نظام الفصل العنصرى والانتقال الديمقراطى الصعبة فى جنوب أفريقيا ويعالج إخفاقاتها (الفساد وتربُّح السياسيين والروح الانتقامية وعجز المؤسسات) وتداعياتها على البشر.
الكثير من التفاصيل المؤلمة التى تسردها جوردايمر فى روايتها تذكر بما نمر به اليوم فى مصر وتحمل شروحاً مقنعة للأسباب، وتدفع من ثم إلى شىء من الصبر الإيجابى على مجتمع ليس له أن يتغير إلا بشق الأنفس ولشىء من التفاؤل بمستقبل لا يعيد إنتاج أمراض الماضى كاملة..
(العنصرية هناك والاستبداد هنا).
0 التعليقات:
Post a Comment