مقدمة
"الديموقراطية هي أسوأ شكل للحكم.. إذا ما استثنينا الأشكال التي جربت من قبل".
ونستون تشرشل – السياسي البريطاني الأشهر.
للعبارة السابقة مصداقية كبيرة عندي.. خاصة عندما تأتى على لسان أشهر سياسى فى تاريخ أعرق الديموقراطيات.
فى مأثور آخر يقول تشرشل أيضا: "حوار مدته 5 دقائق مع الناخب المتوسط يغنينا عن ذكر مساوئ الديموقراطية!"
أستطيع أن أعدد الآن عيوبا عشرة على الأقل للديموقراطية:
الديموقراطية تساوى بين الناس فى حق الاختيار رغم اختلافهم فى العلم ورجاحة العقل والأهلية والصلاح وسائر القدرات.
الديموقراطية تجعل لرأس المال كلمة عليا فى اختيار من يحكم الناس وكيف يحكمهم.
الديموقراطية تتيح تكوين (لوبيات) أو جماعات ضغط تؤثر على القرار السياسى إلى درجة الانحراف..
الديموقراطية تعنى حكم الأغلبية..والأغلبية ليست دائما على صواب..
الديموقراطية تعنى حكم الأغلبية.. أي إجبار الأقلية على ما لا ترضى..
الديموقراطية تسمح برشاوى انتخابية.. إن لم تكن مادية يجرمها القانون.. فمعنوية فوق حكم القانون..
الديموقراطية تشجع ترجيح المصالح الفئوية على المصلحة العامة..
الديموقراطية تفرض عليك الرضا ببرنامج الحزب المنتخب كـ (حزمة) واحدة.. بينما قد تكون مع بعض فقرات البرنامج وضد البعض الآخر..
الديموقراطية تعنى واحدا من عدة خيارات قد تكون كلها سيئة..
الديموقراطية تكتفى بتصحيح مسارات الحكم فى صندوق الانتخابات كل بضع سنوات.. ولا تصححها أولا بأول..
بالرغم من كل ما سبق.. لم يجرب البشر حتى الآن شكلا للحكم أفضل من الديموقراطية..
الحكم الرشيد والشورى والبيعة ليست أشكالا للحكم.. ولكنها مبادئ عامة.. يمكن تطبيقها بدون شكل محدد أو فى شكل حكم ديموقراطى وفى أشكال أخرى ربما لم نبتكرها بعد.. لكن الإسلام لم يقدم لحكمة إلهية شكلا معينا للحكم..
فيما عدا الديموقراطية لم يجرب البشر من أشكال الحكم إلا صنوفا للقمع والاقتتال على السلطة وفرض الإرادة قهرا والاستبداد والفتن ما ظهر منها وما بطن.. ما بين مملكة وإمبراطورية وقيصرية وحزب واحد ودولة بوليسية أو عسكرية..
أنا ومثلى كثيرون فى انتظار ما يجود به الفكر السياسى البشرى من تطور يرقى بمفاهيم وتطبيقات الديموقراطية ليتلافى عيوبها..أو ربما شكل جديد مبتكر للحكم يخزن الديموقراطية فى المتحف باعتبارها نموذجا مرحليا للحكم لم يحقق طموحات البشر للحكم الرشيد..
ولكن إلى أن يحدث هذا.. لا مفر من أن نسعى لتطبيق الديموقراطية فى مجتمعاتنا ودولنا العربية والإسلامية على هيئتها الأكثر نضوجا.. وهو ما لا يعنى بالضرورة نسخا طبق الأصل من الديموقراطيات الغربية.. فالديموقراطيات تختلف من بيئة لأخرى حسب المنظومة القيمية لكل شعب من الشعوب.. الديموقراطية فى ماليزيا وأندونيسيا غيرها فى اليابان غيرها فى تركيا غيرها فى أمريكا الجنوبية غيرها فى فرنسا غيرها فى الولايات المتحدة..
فى بعض الدول الديموقراطية لصيقة بالعلمانية والليبرالية.. وفى دول أخرى لا يشترط هذا..حتى مفاهيم العلمانية والليبرالية.. لا يوجد اتفاق عليها بين المجتمعات..وأحيانا فى داخل المجتمع الواحد..
لا يعنى هذا أن مفهوم الديموقراطية مفهوم مائع لا معالم له.. فالديموقراطية لها معالم متفق عليها:
• حكم الأغلبية
• حقوق الأقلية
• نزاهة الانتخابات
• تداول السلطة
• الفصل بين السلطات
• التعددية السياسية
• حرية التعبير
• الشفافية والرقابة ومكافحة الفساد
• مجتمع مدنى قوى
يتطلب استيعاب هذه المعالم (ناهيك عن تطبيقها) نضوجا عاليا فى البيئة التى تسود فيها الديموقراطية.. والنضوج هنا قائم على التجربة والتراكم.. نجرب ونخطئ فنتعلم.. ومع مرور الزمن يتحول التعلم إلى ممارسة تتوارثها الأجيال التى تدرك تماما فداحة ما يدفعه الناس نتيجة الاستبداد والقهر والصراع على السلطة..
فى البيئة الديموقراطية الحقة تغلب هذه الممارسة على الحياة فى البيت والمدرسة والسوق والمصنع قبل الحزب والبرلمان والقصر الرئاسى وصندوق الانتخابات.. وقد استغرقت الشعوب فى الدول الغربية قرونا من الدماء لكى تصل لدرجة معتبرة من هذا النضوج..
فى أوطاننا العربية الإسلامية بدأنا لتونا المشوار.. فهل ينبغى علينا أن ننزف لمئات السنين قبل أن نصل للدرجة نفسها من الممارسة الراقية؟
الإجابة على الأرجح بالنفى.. فبدايتنا ولدت فى ظل تاريخ وجغرافيا مختلفة.. والعالم من حولنا لا علاقة له بالعالم الذى بدأت فيه أوروبا مسيرتها الديموقراطية زمن العصور الوسطى.. سننضج أسرع.. وسندفع ثمنا أقل..
ومن يدرى ربما نفوز نحن (آخر من التحق بقطار الديموقراطية) ببراءة الاختراع الأفضل من الديموقراطية..
لكن الأمر فى النهاية يعتمد علينا كشعوب ومجتمعات صاعدة فى خضم عالم جديد نعيشه بعد ثورات الربيع العربي.. والأمل فى نخب جديدة يقودها شباب واعد.. شباب قرأ وحفظ.. سافر وتعلم.. تحاور على الفيس بوك وتويتر.. ونزل الشارع ليواجه القوة الغاشمة بصدر عار.. ثم عاد ليسمع درسا فى الشريعة أو محاضرة فى التنمية البشرية.. قبل أن يقرأ كتابا لعلى عزت بيجوفيتش أو يشاهد فيديو لنعوم تشومسكى.. وها هو يؤسس حركة توعية أو حزبا سياسيا أو مؤسسة نهضوية سعيا لمستقبل مختلف.. مختلف عن حاضرنا.. ومختلف عن حاضر الآخر أيضا.. بمرجعية تتمسك بالجذور وتتبنى حداثة فى العقل والروح والجوهر لا فى الجسد والمادة والمظهر..
الأمل الفارق لبلادنا فى تمكين هذا الشباب وإنقاذ المستقبل من براثن عقليات حجرتها عقود الديكتاتورية.. لنختصر القرون لسنين.. والسنين لأيام..
بين رحى سنين الديموقراطية فى الغرب والشرق.. وأيام الديموقراطية فى ربيعنا العربى.. تدور هذه السلسلة من المقالات..
0 التعليقات:
Post a Comment