هل من الممكن أن يكون هناك علم بلا علماء وبالتالى يترك العلم إلى مجموعة من الجهلة، هل من الممكن أن تكون هناك منافسة بلا متنافسين وأن يترك التنافس لمجموعة من المحتكرين، هل من الممكن أن يكون هناك دين بلا متدينين، ويترك الدين لمجموعة من المتاجرين بالدين، هل يمكن أن تكون هناك ديمقراطية بلا ديمقراطيين، وأن تترك المسألة لمجموعة من الديماجوجيين المزايدين الذين لا يعترفون بقانون أو الدوجماتيين الذين لا يعترفون بحق الآخرين فى أن يخالفوهم فى الرأى؟
المعضلة هنا أننا بصدد حديث عن الديمقراطية دون استيعاب معناها أصلا، فننتهى إلى وضع ملتبس، مثل من اعتاد على قيادة السيارة فى مصر ثم يفاجأ بأنه حين يقود السيارة خارج مصر بنفس الطريقة يأخذ مخالفات كثيرة لأنه ظن أن القيادة فى مصر هى النمط الوحيد وربما الصحيح للقيادة، فى حين أنه حين يحتك بمجتمعات أخرى يكتشف المفارقة بين مصر وما يفعله المصريون، والعالم وما يفعله الآخرون.
●●●
إن مفهوم الديمقراطية، الذى أزعم أننا لم نحسن فهمه بعد، مفهوم ملتبس، فخلا المملكة العربية السعودية، لا يوجد نظام حكم فى العالم لا يدعى قادته ورموزه وصلا بالديمقراطية بغض النظر عن مدى التزامهم بها، فألمانيا الشرقية كانت تلحق لفظة ديمقراطية باسمها الرسمى ولا تزال الجزائر فاعلة، كما يتحدث الخليجيون عن «ديمقراطية الصحراء»، وابتدع محفوظ نحناح، القيادى الإخوانى الجزائرى، مفهوم الـShuracracy كبديل إسلامى عن الديمقراطية العلمانية، وتحدث شيوعيو الاتحاد السوفيتى عن «الديمقراطية المركزية»، وروجت نظم الحزب الواحد فى أفريقيا لفكرة «ديمقراطية اتفاق الرأى» (unitary democracy). وقليلة هى الدول التى لا تنص فى دساتيرها أو وثائقها الرسمية على أنها تتبنى الديمقراطية بما فى ذلك عراق صدام حسين، وبيرو فوجيمورى، وأوغندا عايدى أمين وغيرها. ومن هنا حدثت فجوة بين «الشىء» الذى يسمى الديمقراطية و«المصطلح» الذى أصبح أسيرا للاستخدام غير الرشيد إعلاميا وسياسيا. وتظل هذه المعضلة المصرية حيث إننا جميعا نتحدث عن الديمقراطية ولكننا نفهمها بمعان مختلفة بما يخدم مصالحنا أو رؤيتنا السياسية.
وفى مواجهة فوضى الاستخدام الدعائى والانتهازى لمفهوم الديمقراطية، استنبط الأكاديميون صفات يضعونها قبل كلمة ديمقراطية ليفرقوا بين الديمقراطية الحقيقية والنظم التى انحرفت عنها؛ فهناك من تحدث عن نظم هجين «hybrid regimes»، وهناك من تحدث عن نظم «شبه تسلطية «semi-authoritarianism»، أو استخدم وصف «التسلطية الناعمة» «soft authoritarianism»، أو «الديمقراطية المزيفة» «pseudodemocracy»، أو «أشباه الديمقراطية» «semi-democracies»، أو «ديمقراطية غير ليبرالية» «illiberal democracy»، أو ديمقراطية تقديرية «virtual democracy»، أو «استبدادية انتخابية» “electoral authoritarianism»، أو «ديمقراطية انتخابية» «electoral democracy».
كل هذه المحاولات لوقف سيل الاستخدام الدعائى والانتهازى للديمقراطية، ولهذا كتبت فى كتابى المتواضع «المسلمون والديمقراطية» أن «الديمقراطية وأخواتها» سبعة. هناك الديمقراطية الراسخة المستقرة ولها عناصر ستة، إن غاب واحد منها انحرفت لإحدى أخواتها. وهذا الانحراف يعنى خطوة أو أكثر نحو التسلطية. وهذه العناصر هى:
1ــ حق التصويت مكفول للجميع بغض النظر عن النوع والعرق والدين، وإن شاب هذه الخصيصة عيب صارت «ديمقراطية انتقائية»، وهذا ما يسمى بشرط الشمول Comprehensiveness condition، وكان المثال على ذلك الولايات المتحدة حتى عام 1920 ثم 1965، وسويسرا حتى عام 1971، وكانتا منعتا المرأة من المشاركة فى الانتخابات وبعض الأقليات الأخرى.
2ــ منافسة مكفولة لكل القوى السياسية التى تحترم قواعد اللعبة الديمقراطية، وإن شاب هذه الخصيصة عيب صارت «ديمقراطية غير تنافسية»، وهذا ما يسمى بشرط التنافسCompetition condition، وعلى هذا فإن منع الإسلاميين المعتدلين فى بعض الدول العربية من الدخول فى الانتخابات بحجة أنهم إرهابيون أو منع العلمانيين من الدخول فى السباق من أجل مقاعد البرلمان فى إيران أو السودان ينال من شرط التنافسية.
3ــ احترام للحقوق المدنية، وإلا تتحول إلى «ديمقراطية غير ليبرالية» (شرط الليبرالية Liberalism condition) وهو مثال نظامى الحكم العنصرى فى جنوب أفريقيا وناميبيا حيث كانت تجرى انتخابات حرة ونزيهة وتداول سلمى للسلطة بين البيض فى ظل غياب واضح للحقوق والحريات المدنية لقطاع واسع من المواطنين الأفارقة.
4ــ وجود تعدد لمراكز صنع القرار بما يتضمنه هذا من مساءلة ومسئوليات متوازنة، وإلا تحولت إلى «ديمقراطية انتخابية» وهو ما نسميه فى مصر «ديمقراطية الصندوق» (وهذا هو شرط المساءلة Accountability condition)، والمثال على ذلك روسيا الاتحادية تحت ظل الرئيسين يلتسين وبوتين حيث تجرى انتخابات فيها درجة واضحة من التنافس بيد أنها لم تضع أيا منهما تحت مسئولية حقيقية أمام البرلمان أو حتى العودة إليه فى كثير من القرارات. وهى نفس المعضلة التى سنواجهها فى مصر إن حاز الإخوان المسلمون على الأكثرية فى مجلس النواب، ولم يكوّن غيرهم تحالفا معارضا لهم.
5ــ قبول جميع القوى السياسية لقواعد اللعبة الديمقراطية بغض النظر عن نتائجها وإلا تحولت إلى ديمقراطية غير مستقرة (شرط الاستدامة Sustainability condition)، فالتاريخ شهد عددا من القوى السياسية التى وصلت إلى سدة الحكم فى انتخابات حرة نزيهة أو بوعود بإقامة نظم ديمقراطية لكنها لم تف بوعودها مثل هتلر فى ألمانيا النازية أو جبهة الإنقاذ فى الجزائر أو نظام حكم مشرف فى باكستان؛ فمع انتفاء شرط الاستدامة تنتفى قدرة الديمقراطية على إنتاج آثارها الإيجابية.
6ــ المصدر الوحيد للشرعية هو أصوات الناخبين ولا يقبل الناخبون بغير أصواتهم الحرة مصدرا للشرعية وإلا تحولت إلى ديمقراطية نخبوية أو ديمقراطية بلا ديمقراطيين (شرط الثقافة الديمقراطية Democratic Culture condition)، فالتاريخ يشهد بالعديد من حالات التراجع عن الديمقراطية بعد إقرارها لصالح نخب عسكرية تتبنى شعارات شعبوية مثل مصر والعراق فى أعقاب الحقبتين الليبراليتين تحت الاحتلال والأرجنتين والبرازيل فى السبعينات وحتى منتصف الثمانينات.
إذن الديمقراطية الراسخة المستقرة هى التى تجمع العناصر الستة. وحقيقة فإن أدبيات علم السياسة زخرت بنقاشات مستفيضة بشأن إطلاق لفظة ديمقراطية على نظام حكم يفتقد واحدا من هذه العناصر. فهناك من يرى أن الديمقراطية إما أن توجد أو لا توجد. فما قيمة «ديمقراطية» مع غياب تنافس حقيقى بين القوى السياسية التى يتكون منها المجتمع بسبب سيطرة حزب واحد على الحكم عن طريق التزوير والترهيب، وما جدوى إطلاق لفظة «ديمقراطية» على نظام حكم تأبى قواه السياسية احترام إرادة الناخبين إذا أتوا بمنافسيهم إلى الحكم؟
ورغما عن وجاهة الطرح السابق، فإن منطق «إما ديمقراطية أو لا ديمقراطية» له قيمة معيارية مفيدة لكن قوته التحليلية ضعيفة. فلا يمكن أن توضع نظم مثل كوريا الشمالية والصين وروسيا الاتحادية وإيران ودول الخليج والعراق والجزائر ومصر فى نفس الخانة لأنهم لا يملكون عنصرا واحدا أو أكثر من العناصر السابقة.
●●●
كل ما سبق من معايير يبقى نظريا حتى يُختبر النظام السياسى فى الديمقراطية فيثبت نجاحه أو فشله. ومن أمثلة الاختبارات القاسية التى مرت بها دولة مثل الولايات المتحدة، التى فى ديمقراطيتها الكثير مما يستحق الانتقاد قطعا، هو جدل الانتخابات الأمريكية فى عام 2000 حيث فاز آل جور بأغلبية الأصوات العددية لكنه وفقا للدستور الأمريكى فإن توزيع الأصوات بين الولايات هو الفيصل فى تحديد الفائز فى الانتخابات. ولأن تقليد تداول السلطة فى الولايات المتحدة مستقر منذ أن قرر الرئيس الأول جورج واشنطن ألا يترشح لمنصب رئيس الجمهورية أكثر من مرتين، فظلت باقية فى عقبه، فإن هذا التقليد قد رسخ فى أذهان الأمريكيين احترام مؤسسات الدولة حتى وإن اختلفوا مع توجهها.
وعليه فقد وقف مؤيدو آل جور على أحد جانبى الشارع ووقف أنصار جورج بوش على الجانب الآخر ينتظرون جميعا حكم المحكمة الدستورية فى فلوريدا ثم فى المحكمة العليا فى العاصمة واشنطن دون طلقة رصاص واحدة أو إغلاق أى طرق أو التهديد باللجوء للعنف أو إعلان الحرب المقدسة على أحد بل ويعلن المرشحان المتنافسان أنهما سيحترمان حكم المحكمة أيا كان، وقد كان. ومن هنا كانت المؤسسة أقوى من الفرد لأن الفرد له دور وله مدة أما المؤسسة فلها وظيفة ولها ديمومة. هل وقع ظلم على آل جور؟ طبعا وقطعا ويقينا وهذا أمر لا مجال للخلاف بشأنه ولكن يبدو أن ثقافة مجتمعهم تجعل الشخص يتعود على احترام القانون والقضاء حتى لو اعتقد أنهما ظالمان ليس بسبب القمع، ولكن بسبب الحرص على ألا تحدث فتن تنال من استقرار الدولة.
هناك توجد ديمقراطية، ويوجد ديمقراطيون، على عيوب فى التطبيق. أما فى منطقتنا العربية، ومصر رائدة فى هذا، فهناك كلام عن الديمقراطية من أشخاص غير ديمقراطيين يتعاملون مع الديمقراطية كمصطلح فارغ من المضمون وإنما مجرد غطاء للديكتاتورية الكامنة فى ثقافتنا. عن الحكم والمعارضة معا، أتحدث. وعموما، رسوخ الديمقراطية فى ثقافة ما، بالذات مثل ثقافتنا، سيتطلب الكثير من الجهد والوقت والتعلم، وأنا على يقين أن النتيجة مضمونة بشرط الإخلاص للمبدأ والمصلحة العليا للوطن.
0 التعليقات:
Post a Comment