«كنت أعتقد أن نشر الوثائق قد يثير نقاشاً حول سياستنا الخارجية والحرب عموماً.. لقد وجدت نفسى رويداً رويداً فى وضع منعزل مع جيش لا يبدو أنه يقدر الحياة البشرية.. بقدر ما كنت أحاول القيام بواجبى على أفضل وجه، بقدر ما كنت أشعر أننى أنعزل عن زملائى.. لقد كنت أشعر بأن زملائى فى الجيش لديهم تعطش شديد للدم.. وأصبحوا مهووسين بأسر أهداف بشرية أو القضاء عليها» هذا بعض ما تلاه الجندى الأمريكى برادلى ماننج المتهم بتسريب مئات الآلاف من الوثائق العسكرية للجيش الأمريكى التى نشرها موقع «ويكيليكس» خلال عامى 2009 و2010 وسببت دماراً هائلاً فى مكانة الجيش الأمريكى وما يقوم به فى العالم وما يرتكبه جنوده من جرائم، وقد أدلى «ماننج» بهذه الاعترافات فى الجلسة الأولى التمهيدية لمحاكمته أمام محكمة عسكرية أمريكية يوم الخميس الماضى، حيث من المقرر أن تبدأ محاكمته بشكل رسمى فى شهر يونيو (حزيران) القادم وقد أعد «ماننج» إعلاناً بنفسه وقرأه فى المحكمة لمدة ساعة كاملة، شرح فيه الأسباب التى دفعته إلى القيام بما قام به وكان من بين ما تلاه فى المحكمة تلك الجمل والعبارات التى شرح فيه الأسباب والدوافع، كما تعرض لكثير من الجرائم التى ارتكبها الجنود الأمريكيون فى العراق ومنها إطلاق النار من مروحية على مدنيين فى العراق عام 2007 وكذلك أسر بعضهم واستخدامهم أهدافاً للتسلية بالنيران الحية.
والجندى الأمريكى برادلى ماننج شأنه شأن كثير من جنود الجيش الأمريكى الذين يتم تجنيدهم من الأماكن الفقيرة فى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث التحق بالجيش وعمره عشرون عاماً وكما وصف نفسه فى البيان المطول الذى تلاه أمام المحكمة «شاب شغوف بالجغرافيا السياسية وتكنولوجيا المعلومات» وأنه انخرط فى الجيش من أجل «تكوين خبرة فى العالم كما هو» كذلك الاستفادة من «منحة تعليمية جامعية»، حيث يقدم الجيش الأمريكى إغراءات إلى الراغبين فى الالتحاق به، من أهمها تقديم منحة تعليمية مجانية فى إحدى الجامعات الأمريكية، حيث تبلغ تكاليف التعليم الجامعى فى الولايات المتحدة مبالغ طائلة عادة لا يقوى عليها الفقراء أو متوسطو الدخل، مما يؤدى إلى عدم التحاق معظمهم بالجامعات.
ومع ذوبان معظم المجندين الأمريكيين فى الحياة العسكرية وتركيز هدفهم على المنح التعليمية التى تكون الهدف الأول لمعظم صغار السن الذين يلتحقون بالجيش، وجد «ماننج» نفسه فى وضع آخر وهو يعيش أحداث الحروب التى يخوضها الجيش الأمريكى فى العراق وأفغانستان والمراسلات التى يتبادلها الدبلوماسيون الأمريكيون مع مقرهم فى واشنطن، وبحكم موقعه كمحلل استخبارات فى الجيش كان يطلع على عشرات الآلاف من الوثائق حول هذه الجوانب، وقد عبر «ماننج» عن هذا بقوله: «لقد وجدت نفسى رويداً رويداً فى وضع منعزل مع جيش لا يبدو أنه يقدر الحياة البشرية» هذه العزلة جعلته يفكر فى كيفية إيقاف هذه الجرائم من خلال سلوك اعتبره الأمريكيون واحدة من أكبر الجرائم العسكرية فى تاريخهم الحديث، حيث حاول «ماننج» الاتصال بصحف أمريكية مثل «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» وغيرهما لكنه لم يجد تجاوباً فتوجه إلى موقع «ويكيليكس» الذى نشر كل الوثائق التى سربها «ماننج» والتى زادت فى الفترة بين شهرى نوفمبر 2009 ومايو 2010 عن 260 ألف وثيقة عن وزارة الخارجية الأمريكية وحدها، مما أثار عاصفة كبيرة فى الأوساط الدبلوماسية العالمية وأحرج الولايات المتحدة مع كبار حلفائها، حيث لم تترك هذه الوثائق دولة ولا مسئولاً لم تتعرض له، وأظهرت المسئولين الأمريكيين فى السفارات على أنهم جواسيس ينقلون كل صغيرة وكبيرة تحدث فى البلاد التى يقيمون فيها إلى واشنطن، وعلاوة على الوثائق الدبلوماسية كان «ماننج» بصفته محللاً استخباراتياً يمكنه الوصول إلى قواعد المعلومات للأحداث اليومية فى العراق وأفغانستان، حيث اطلع على أكثر الوثائق أهمية فى تاريخ الولايات المتحدة الحديث، على حد وصفه، وأكد أنه كان يهدف من وراء تسريب المعلومات إلى أن يسبب الحرج للسياسة الأمريكية لكنه لم يقصد على الإطلاق الإساءة إليها، ومن ثم فقد أنكر اثنتى عشرة تهمة من أصل 22 تهمة وجهت إليه، واعترف بعشر منها فقط.. قد تودى به فى النهاية إلى السجن المؤبد.
0 التعليقات:
Post a Comment