أن تدير حملة ظالمة لتشويه أول جمعية تأسيسية في تاريخ مصر الحديث لتتهمها بموالاة فصيل ومعاداة فصائل، فتلك سقطة، خصوصا إذا كنت أنت ممن ساهموا في تشكيلها والتوافق عليها اسما اسما. ثم أن تنسحب قبل أن تنهي الجمعية عملها بأسبوعين ، وهي في الشوط الأخير بعد أن تم التوافق علي كل مسائل الخلاف كتابة وتوقيعا فتلك سقطة أخري تُحسب عليك. وأن تدير معركة لتشويه عمل الجمعية بكل الطرق، بما في ذلك الترويج لافتراءات عبر إعلام مستعد لسماع كل مستغرب عن أمور لا يصدقها أطفال لكن المتخاصمين يبتلعونها في حومة الصراع السياسي ؛ فتلك سقطة ثالثة.
أما السقطة الرابعة ، فلا يمكن تمريرها يا سيدي!! فالشعب دُعي للاستفتاء علي الدستور في ظل حالة من التشويه والحرب غير المسبوقة والشحن العاطفي وغير العقلاني وتدخلات دولية فاجرة لا تبتغي شيئا إلا كبّ مزيد من الكيروسين الشحيح أصلا علي نار ملتهبة في الأساس. ورغم ذلك ، فإن الشعب خرج وصوّت وأيد الدستور بأغلبية غير مسبوقة في حالات التحول الديمقراطي، إذ لم يسبق أن دستورا وضعته أمة بعد ثورة كبري أو حرب ضروس نال تأييد 64٪ من المصوّتين ؛ ويمكن لمن شاء أن يراجع كيفية إقرار دساتير دول خرجت من الحرب العالمية الثانية خصوصا عام 1946 كفرنسا وإيطاليا، ودول خرجت من حالات الديكتاتورية في أوروبا الشرقية ووسط آسيا خلال تسعينيات القرن الماضي.
والسقطة الخامسة هي المحاولات المستمرة من المعوقين أنفسهم لتفريغ الدستور من مضمونه بعد إقراره وإسقاط هيبته وقيمته بعد أن فشلوا في منع تصويت الشعب عليه؛ ولا يمكن تفسير الإصرار علي الإخلال بالدستور وخرقه والتنكب عن تطبيق توجيهاته أو الامتناع عن إعمال أحكامه وإنفاذ تبعاته، سوي أنها محاولة لإسقاط الدستور بطريقة ملتوية، لكنها مكشوفة. فهم يأملون في أن تسقط هيبته كسقوط هيبة مؤسسات كثيرة، فيصبح خرق الدستور عادة، والتقرير علي خلافه بطولة ، والتسفيه من نصوصه نوعا من الكوميديا التي أُذن لها بأن تلطخ كل وجه وتسفه كل عمل وتنال من كل قيمة. ويطرح البعض سؤالا بخبث: ألم ترغبوا في الحرية؟؟ ولهؤلاء نقول: إن الحرية لم تكن أبدا: تشويها للضمير حتي يكتئب، وتلويثا للقيم حتي تتآكل، وإسقاطا لما ينجزه الشعب حتي ييأس.
ولا يخفي علي أحد مدي ما واجهته عملية وضع الدستور من مصاعب، ولا ما حاوله البعض لإفشال عملية التصويت عليه بما في ذلك مقاطعة قضاة للإشراف علي عملية التصويت، وهو ما لم يجرؤ أحد علي التلويح به أيام الديكتاتور. لكن أن يصل الحال لتجاهل البعض للدستور وأحكامه معتقدا أن في إمكانه أن يدير دفة الوطن لتعود للخلف (!!) فهو بالتأكيد يجعل من نفسه مخاصما للأمة التي اختارت دستورها، فمن دافع عن وضع الدستور مستعد للدفاع عن وجوده واستمراره وإلزامه. ومثال ذلك ما يثيره البعض من أن عودة النائب العام السابق لمنصبه أمر ممكن، خلافا لحكم الفقرة الثانية من المادة 173 والتي تجعل للنائب العام فترة واحدة في حياته المهنية مدتها أربع سنوات لا تزيد مستندا في ذلك لحكم صادر من دائرة تظلمات القضاة باستئناف القاهرة والذي لم يقل ذلك لا صراحة ولا ضمنا، وإلي جدل عقيم مضي أوانه بشأن أثر الإعلان الدستوري الصادر في 22 نوفمبر والذي تبعه في 8 ديسمبر 2012. رغم أنه لم يعد لذلك الجدل قيمة بعد أن ألغي الدستور كل الإعلانات الدستورية وابقي ما ترتب عليها من آثار نافذة.
ولا يتعلق الأمر بالجدل السياسي القائم بشأن أشخاص بذواتهم بقدر تعلقه بتثبيت القيم الدستورية، ولجم أولئك الذين يحلمون بالعودة بنا إلي الماضي بمبررات ظاهرها الشرعية والقضائية والإنسانية وباطنها هدم ما بُني وإسقاط ما استقر وإعادتنا لحال الصفر.
ولا أدري كيف يعتقد البعض أن حكما قضائيا، أيا كانت الجهة التي أصدرته يمكن أن يقرر وضعا مخالفا للدستور، متناسيا حقيقة أن شرعية القاضي وحكمه لا تجد سندا سوي في الدستور ذاته، فإذا أُهدرَت أحكام الدستور فستُهدر معها كل قيمة لقضاء أو معني لحكم أو إلزامية لقرار. وبالتالي فإن الاستقامة في الفكر لا يمكن إلا أن تفسر أي حكم قضائي أو نص تشريعي أو قرار إداري في إطار أحكام الدستور ، بحيث إذا استعصي التوفيق بين أيٍ من ذلك وحكم الدستور فإن إنفاذ حكم الدستور يكون هو الواجب الذي تلتزم به كل سلطة وهو الحد الذي لا يجوز أن تتخطاه اي مؤسسة. وتفسير الحكم المشار إليه بما يتوافق مع الدستور أمر لا يستعصي إلا علي من ركّب عقله بحيث يلتقط كل حدث للتشكيك في شرعية الدستور ونتاج الإرادة الشرعية.
إن أساس أية شرعية، منذ إقرار الدستور في 25 ديسمبر 2012، هو الدستور ذاته، وإلا لاختلط الحابل بالنابل وادعي كل مدعٍ أن الشرعية في جانبه، ولخرج علينا من قامت الثورة لتبديلهم يعلنون أن الثورة كانت جريمة وأن الانتخابات كانت تزويرا وأن الاستفتاء كان بهتانا؛ ولن يعدم هؤلاء سندا من هنا أو قرارا من هناك أو تغطية من أولئك؛ بل إن كل الاحتمالات تصبح ممكنة ، بما فيها تلك الأكثر سخرية ، كإعادة أسرة محمد علي للحكم أو الحكم بتعويضهم عن إقصائهم عن ملك مصر.
وكما أن محاولات إسقاط الدستور لا تتوقف، فإن مسيرة اهماله أيضا تثير الدهشة ؛ فقد دعوت الحكومة إلي تشكيل لجنة عليا تكون مهمتها وضع خطة عمل لإنجاز التكاليف الدستورية التي وضعها الدستور علي عاتق الحكومة ، سواء في إنشاء أو إدارة مرافق الدولة أو في إصلاح المؤسسات ونظم الوظيفة العامة وإنهاء حالات التمييز وانعدام العدالة والفساد المالي والإداري ؛ أو ما يتعلق منها بوضع نظم جديدة لاستخدام أو استغلال أملاك الدولة ومصادر المياه والثروة الطبيعية ؛ أو بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية ، وما تستلزمه من وضع خطط لإصلاح التعليم والصحة وتجويد الخدمات فيهما وتوفيرهما لكل مواطن ؛ إلي غير ذلك.
وبدلا من ذلك بادرت الحكومة إلي تشكيل لجنة لاقتراح تعديل الدستور ، وهو وإن كان غير محظور نظريا ، فالدساتير جهد بشري قابل للتعديل والتغيير ؛ غير إن حديث أي حكومة عن تعديلات دستورية قبل قيامها بالواجبات الملقاة علي عاتقها بموجب الدستور ، إنما يمثل تراخيا واضحا في إعمال واجباتها الدستورية ، والذي يخاطب أول ما يخاطب ، مؤسسات الدولة وسلطاته الثلاث لتقوم كل منها بما أوجبه عليها حتي يري المواطن دستوره في صورة تغيير للسياسات الاقتصادية والاجتماعية والعلاقات الخارجية ، وإنجازا للحقوق التي وعد بها الدستور وأوكل للحكومة تحقيقها.
لا يمكنني أن أفصل بين مسيرة إهدار الدستور وعملية إهماله ، فكلاهما يؤدي لإضعاف الثقة فيه وتحويله لحبر علي ورق دون أن يكون له تأثير في تغيير الواقع ؛ وهو الأمر الذي يجب ألا يرضي عنه ، خصوصا أولئك الذين مثلوا شعبهم في عملية وضع الدستور ، فعليهم أن يرفعوا أصواتهم ، علي الأقل ، بالتنبيه إلي ان الدساتير تُصاغ لكي تحدد نطاق الشرعية فلا يخرج عنها أحد ، ولكي تعمل الحكومات علي تطبيق أحكامه في سياسات تترجم طموحات الشعب المصاغة في عبارات الدستور إلي إنجازات حقيقية ؛ لكي يشعر كل مواطن أن ما دفعه من ثمن عاد إليه خدمات أرقي وسياسات أنضج ورؤي أوضح ودولة أقوي.
0 التعليقات:
Post a Comment