«لدينا الآن حالة تسمى حالة طوارئ وطنية، وبرغم أن رجال السياسة والنفوذ مسموح لهم بأن يتبجحوا على هواهم، وبرغم أن جماعة الصحافة مسموح لها بأن تهذي وتنشر الهستيريا، وبرغم أن جماعة الجيش تهدد وتتوعد وتُشدد على كل ما ليس على هواها، فإن من المفترض بالمواطن الفرد الذي تُشنّ الحرب من أجله وبمساعدته أن يُمسك لسانه، وبما أني لا أكن أدنى قدر من الاحترام لإخراس الألسنة، لأنه لا يساعد على التقدم أبدا، واصلت تصريحاتي لتثير الإنزعاج والغضب، لأنني أؤمن مع جون ستيوارت ميل بأن «الأمة التي تُقَزِّم رجالها، لكي يصبحوا أدوات طيعة أكثر في يديها حتى من أجل أهداف مفيدة، سوف تجد أنه لا يمكن إنجاز شيئ عظيم برجال صغار».
هكذا صرخ الكاتب الأمريكي الشهير هنري ميللر في مقدمة كتابه (كابوس مُكيّف الهواء) معلنا رفضه لحالة الإرهاب الفكري التي سادت بلاده طيلة السنين التي سبقت الحرب العالمية الثانية، والتي كانت تسعى لإخراس كل صوت مختلف يدعو إلى السلام، لكنه مع إصراره على أن يقول رأيه بشجاعة، كان شديد الواقعية وهو يجهر بإدراكه أن رأيه سيكون أضعف من صوت الشعارات الطنانة التي تحتكر الحديث باسم الوطن وتدعي أنها وحدها الأدرى بمصلحته، لذلك كتب بمنتهى الواقعية «لكي يعرف الإنسان السلام يجب أن يجرب الصراع، عليه أن يمر بالمرحلة البطولية قبل أن يتمكن من التصرف كحكيم، يجب أن يصبح ضحية انفعالاته قبل أن يتمكن من التعالي عليها».
بالطبع لم يكن ميللر يشك أبدا في خطورة النازية والفاشية، لكنه كان يمتلك رؤية مختلفة لطريقة القضاء عليهما إلى الأبد، لم يقدر الكثيرون رأيه وقتها، لكن الأيام أثبتت صحة رأيه بعد مرور السنين وعندما عادت النازية الجديدة والفاشية الجديدة لتكون خطرا مقلقا سريع التصاعد، وقتها قال ميللر وهو يمني نفسه بأن تتعلم بلاده شيئا ما من الكابوس الذي تشهده «الذين يعتقدون أن الوسيلة الوحيدة للقضاء على من يُجسدون الشر هو تدميرهم، فليدمروا، دمر كل ما يقع عليه بصرك، إذا كنت تؤمن بهذا النوع من التدمير، فأنا لا أؤمن إلا بالتدمير الطبيعي، الطارئ على الخلق والمتأصل فيه...بعضهم يعتقدون أن إعلان الحرب يغير كل شيئ، ليت هذا صحيح، ليتنا نستطيع أن نصبو إلى تغيير جذري، كاسح، كامل وشامل، لكن التغييرات التي تجلبها الحرب لا شيئ مقارنة باكتشافات أديسون واختراعاته، ومع ذلك يمكن للحرب أن تحدث تغييرات خيرة أو شريرة في روح شعب ما، وهذا ما أنا مهتم به بصورة حيوية: تغيير القلب وهدايته».
في كتابه البديع الذي ترجمه إلى العربية أسامة منزلجي ونشرته دار المدى، يقرر هنري ميللر أن يقاوم شبكة المصالح الحاكمة التي تريد إخراس كل صوت لا يروق لها بطريقة مبتكرة هي أن يبدأ رحلة يستكشف بها بلاده من أقصاها إلى أقصاها، ليس يأسا من مواجهة الواقع ولا هروبا من معاركه، بل إدراكا أن شعبه سيكتشف حتما أن مشاكله المعقدة لن تحلها الشعارات الحنجورية، «إذا احتاج الأمر حدوث كارثة كالحرب لإيقاظنا، فليكن. دعونا نرى الآن إن كان العاطلون عن العمل سيجدون عملا، والفقراء سيكسون جيدا ويطعمون ويؤون، دعونا نرى إن كان الأغنياء سيُجرّدون من غنائمهم لكي يعانوا حرمان المواطن العادي وآلامه، دعونا نرى إن كان عمال أميركا كلهم على اختلاف طبقاتهم ومقدرتهم وفائدتهم، يمكن إقناعهم بقبول أجر موحد، دعونا نرى إن كان الناس سيتمكنون من الجهر برغباتهم بشكل مباشر، من دون توسط وتحريف، ومن دون التصرف الأخرق للسياسيين، دعونا نرى إن كنا نستطيع أن نوجد ديمقراطية حقيقية لتحل محل تلك الزائفة التي استنهضنا لندافع عنها، دعونا نرى إن كنا سنستطيع أن نكون عادلين ومنصفين مع أقراننا، ناهيك عن العدو الذي سنقهر بلا أدنى شك».
وفي حين اختار مثقفون كثيرون أيامها أن يجاروا التعبير الكاذب عن الوطنية بشكل مبتذل يجلب لهم التصفيق، امتلك هنري ميللر الشجاعة لأن يعلن رفضه لمظاهر الوطنية الشكلية التي تجتاح البلاد، ساخرا مثلا من هوس اجتياح العلم الأمريكي لشوارع نيويورك «لقد أضحى العلم عباءة يختفي تحتها الظلم، إن لدينا دائما علمين أمريكيين: واحد للأغنياء وواحد للفقراء، عندما ينشره الأغنياء فهذا يعني أن كل شيئ تحت السيطرة، وعندما ينشره الفقراء فإنه يعني الخطر والثورة والفوضى». كما أعلن رفضه أن يوقع على بياض صكوك الولاء لأجهزة القمع التي تتصور أن دخول المجتمع في حالة حرب يمنحها الحق دون أن تفعل ما تشاء دون رقيب رافضا ممارساتها حتى وإن كانت ترتكب بحق السجناء المدانين «إذا كان لا بد أن تحمي المجتمع تلك الوحوش اللا إنسانية فليذهب المجتمع إلى الجحيم، وإذا كان القانون والنظام لا يعتمدان إلا على رجل مسلح حتى أسنانه، رجل بلا قلب، بلا ضمير، فلا معنى للقانون والنظام»، كما حرص على أن ينبه إلى خطورة استغلال الرعب والخوف في تجييش الشعب دون أن يتم ذلك بعد جهد حقيقي لبناء الذات وتطويرها، لأن شعوب الدنيا لن تصدق رغبتنا في قتل هتلر وموسوليني إلا «عندما ننظف أنفسنا أولا ونقتل هتلرياتنا وموسوليناتنا التي تسكننا، وأن العالم الجديد الذي نبشر به لن تتم صناعته ببساطة عندما ننسى العالم القديم، فالعالم الجديد لن يُصنع إلا بروح جديدة وقيم جديدة».
لم تغير كلمات هنري ميللر الواقع وقتها، لكنها لم تذهب أدراج الرياح، بل بقيت في الذاكرة الشعبية، وسكنت وجدان أجيال تالية اكتشفت بالتجربة أن العالم الجديد الذي شاركت في صنعه أمريكا بعد الحرب، لم يكن سوى أكذوبة كبيرة، فقد نشأ على نفس القيم القديمة وبنفس الروح القديمة الفاسدة، ولذلك أخذت أمريكا تناقض كل المبادئ التي ادعت أنها تناصرها، ولذلك استمر البسطاء يدفعون وحدهم دائما ثمن الحروب غامضة النوايا التي يلجأ أصحاب المصالح إلى تسويقها بشعارات الوطنية البراقة، ليحققوا أحلامهم في المزيد من النفوذ والسلطة، ويبقى الفقراء وحدهم يعيشون في كابوسهم الذي حتى وإن جعله الحكام مكيف الهواء مسكونا بالأحلام ومتخما بالأغاني الوطنية، فإنه سيظل في حقيقة الأمر كابوسا يجب التخلص منه.
0 التعليقات:
Post a Comment