سيدة يغمرها الحزن، تذرف الدموع من عينيها، تحتضن شابًا مضرجًا في الدماء، وتحت قدميها يكتب "يا بلادي عايزه حق ولادي.. توقيع أم الشهيد". كانت هذه صورة على باب الغرفة 501 بالمركز التأهيلي بالعجوزة، ولكنها في حقيقة الأمر إشارة مرور لمقابلة امرأة قعيدة، تجلس على أحد أسرّة المستشفى، وإلى جوارها كرسي متحرك، وعلى قدميها جهاز "لاب توب"، هو نافذتها للخارج ووسيلة تواصلها مع جيران غرف مجاورة، فارقوها بعد قرار مجلس الوزراء إلغاء مخصصات رعاية مصابي الثورة بالمركز الطبي التابع للقوات المسلحة.
هي راندا سامي، ورفقاء الغرف المجاورة هم 14 من مصابي 28 يناير، عدد منهم مصاب بشلل نصفي، وبعضهم كُلِّي، خلال المواجهات مع الشرطة أثناء "الثورة". جمعهم هَمُّ العلاج وجراح الإصابة في مركز التأهيل خلال عامين وأكثر وحتى 30 يونيو، التي شاركوا فيها، لما وجدوه من تجاهل نظام الإخوان لمطالبهم وأهداف الثورة. سقطت الجماعة، ومعها كانت أولى قرارات حكومة الببلاوي إلغاء مخصصات علاجهم بالمستشفى، مكتفيًا بعدد من جلسات العلاج الطبيعي الأسبوعية، مستندًا إلى تقرير أحد الخبراء عن عدم جدوى علاجهم.
خرجت راندا، السيدة الأربعينية، على كرسيها المتحرك إلى شارع مجلس الوزراء، وبصحبتها عدد من المصابين، للتظاهر بعد إلغاء المخصصات، فأُغلقت الأبواب في وجوههم، ولم يجدوا أمامهم سوى عدد من عساكر الأمن المركزي. غادرت راندا كرسيها تحبو في اتجاه الباب الحديدي للمجلس، تسنند بظهرها إليه، ويعلو صوتها بالهتاف ولا مجيب. وظل المسؤولون بالداخل قابعين على كراسيهم، غير عابئين بها، وتناسوا أنها وزملاءها من مصابي الثورة هم من قادوهم إلى كراسيهم الوثيرة.
وبعد وقت ليس بالقليل، خرج لهم أحد موظفي مجلس الوزراء، وقال: "قولوا مطالبكم وهنرفعها لرئيس الوزراء". رد مصطفى أحد المصابين الأربعة عشر قائلًا: "وليه هو مينزلِّناش؟ إحنا السبب في وجوده على كرسيه"، فرد الموظف بشيء من التعالي: "هو اللي ينزلكوا، طب تيجي إزاي؟!".
تواجه راندا وزملاؤها من المصابين أصحاب الإعاقة مشكلة الاندماج في المجتمع بعد طردهم خارج المستشفى. تؤكد أن "صاحب الإعاقة الطبيعية يكون مؤهلًا للتعامل مع الحياة، لكن المعاقين من مصابي الثورة يواجهون مشكلة حقيقية في الاندماج بالمجتمع، ومواجهة وضع جديد عليهم"، وبناءً على ذلك خُصصت لهم شقق سكنية مجهزة لحالتهم من قبل الحكومة في عهد مرسي، لكن لم يتسلموها حتى الآن، وهناك مماطلة شديدة.
مصابو الثورة بشكل عام، والمعاقون منهم بشكل خاص، يعيشون في ظل تعنت الحكومة وتباطؤها في تسليم حقوقهم المهدرة، وعلى رأسها شقق سكنية تناسب حالتهم الصحية، وبخاصة بعد الخروج من المركز، وفي ظل حاجتهم للخروج بشكل أسبوعي لجلسات العلاج الطبيعي.
في محاولة بائسة، التقى ممثل عن 14 مصابًا بالمتحدث الإعلامي الخاص بوزير الإسكان، بعد توسط محمود بدر مؤسس حملة "تمرد". ورغم ذلك أحالت وزارة الإسكان مشكلتهم إلى هيئة المجتمعات العمرانية، ومنها إلى المجلس الأعلى للمصابين والشهداء، وفي النهاية تستمر الدائرة المفرغة التي لم يصلوا من خلالها لشيء.
"عزبة".. كان هذا هو الوصف الأنسب بحسب راندا للمجلس القومي لرعاية مصابي وشهداء الثورة، المعني بحقوقهم وقضاياهم، فالموظفون عائلة وجميعهم أقارب، وهي لا تستطيع دخول مقر المجلس نفسه، فلا قدرة لها ولا لرفاقها الأربعة عشر على صعود سلالم المجلس. "مركز مصابين مابيعرفش يدخله المصابين نفسهم، إزاي عايزُه يجيبلهم حقوقهم؟". تؤكد راندا بأسى أن الحكومة لم تراعِ عجزهم، ولم تخصص مكانا لصعود كراسيهم كأي مبنى مخصص للتعامل مع ذوي احتياجات خاصة.
ينتاب راندا شعور دائم بأن متصدري المشهد بعد 30 يونيو همهم الشاغل "طمس ملامح ثورة يناير"، والتنكر لحقوق مصابيها وشهدائها. تستشهد بعدم تمثيلهم في لجنة الخمسين لتعديل الدستور.
تعتبر أن 30 يونيو موجة من ثورة يناير، وترفض تسميتها بثورة. تشدد على أن هناك موجات أخرى لثورة يناير. بحماس تؤكد أن "يناير هي الأساس، والباقي موجات لها ولسَّه مستمرة. قدرنا في يناير نكسر جبروت الشرطة، وبعد يناير رجعت الشرطة بشكل أصعب".
تعرّضت راندا للإصابة خلال أحداث 28 يناير، حيث كانت في المستشفى الميداني تخيط جرح شاب عمره 17 عامًا. حاول ضابط أمن مركزي القبض على الشاب، فكادت تقبل قدمه كي يتركه، لكنه نهرها وشتمها وانهال ضربًا بعصا غليظة على ظهرها وعنقها.عاشت أيام الثورة على المسكنات لتخفيف الألم، حتى فوجئت بعد التنحي بيومين بتجمع دموي حول الحبل الشوكي، يحتاج لتدخل جراحي عاجل. خرجت من غرفة العمليات مصابة بشلل رباعي، ثم دخلت مركز تأهيل العجوزة للعلاج الطبيعي في 19 أبريل، ولم تخرج منه حتى الآن.
تؤكد في مرارة أن أحدًا لا يعترف ببطاقة "مصابي الثورة"، وأن حامليها لا يرون من ضباط الشرطة في الشارع سوى التعالي. تعدل راندا سامي من وضع جلوسها وترسم ابتسامة ساخرة على وجهها، وتقول: "قبل 30 يونيو كنا بنتشال على الراس، وبعدها أصبحنا ندَّاس بالمداس".
0 التعليقات:
Post a Comment