الطفلة ايمان ضحية مسدسات الخرز
بقدميها الحافيتين أسرعت تجرى خلف بالون أحمر دفعه الهواء بعيدا، تصطدم ساقاها بحجر يسقطها على الأرض، تنطلق ضحكة صافية، وتستجمع قوتها لتنطلق من جديد، تختبئ من شقيقها الأكبر خلف جدار لم يستكمل بناؤه، تنظر بعينيها اللامعتين، باحثة عن شقيقها، إلا أنها تستقبل طلقة خرز صادرة من مسدس بلاستيك يلهو به جارها، لتستقر داخل عينها. ينطفئ نور عين «إيمان»، فى لحظة، تسقط على الأرض، غارقة فى دمائها، ويتلون فستانها الأبيض باللون الأحمر.
داخل عشة من الخوص على أطراف محافظة بورسعيد تعيش إيمان محمود إبراهيم التى استكملت عامها الثانى، أول أيام عيد الأضحى، وهو نفس اليوم الذى فقدت فيه عينها. هرولت الأم، الأربعينية، عند سماع صراخ طفلتها الصغيرة، وسط ذهول من اندفاع الدم من عين ابنتها اليسرى بغزارة، تحملها على ذراعيها، وتذهب بها مسرعة إلى مستشفى الرمد، لتفاجأ الأم بمئات من الشباب يفترشون طرقات المستشفى جميعهم مصابون بطلقات خرز. تقبل يد ممرضة فى أحد العنابر، وتستحلفها، قائلة: «الحقى بنتى مش عارفة اللى حصلها، لقيتها غرقانة فى دمها قدام العشة».
لم تتحمل الأم خبر فقدان «إيمان» عينها اليسرى، فسقطت مغشيا عليها، وسط صرخات أقاربها. تقول: «أنا بعيش مع زوجى، سائق التاكسى، داخل عشة، وعندى ولد وبنت، وأول يوم العيد، خرجت بنتى (إيمان) تتفرج على العيال اللى بتلعب فى الشارع، وفجأة، سمعت صراخ (إيمان)، ولقيتها بتنزف من عينها، فجريت عليها، وماكنتش اتخيل ان عين بنتى تروح فى لحظة، بسبب طلقة خرز، ومش عارفة اتصرف ازاى، لأن الدكتور قالى لازم بنتك تتابع فى المستشفى، علشان عينها التانية تفضل سليمة».
ليست «إيمان» الحالة الوحيدة التى استقبلها مستشفى الرمد ببورسعيد، فى أول أيام عيد الأضحى، مصابة بجرح قطعى فى القرنية، بسبب دخول طلقة خرز فى العين، فالمستشفى استقبل 326 حالة، خلال أيام عيد الأضحى، ويوم وقفة عرفة، حسب تصريحات الدكتور حسام حسين، مدير مستشفى الرمد ببورسعيد، الذى أكد أنه «للمرة الأولى يستقبل المستشفى هذه الأعداد الضخمة من المصابين بطلقات خرز، والمصابون من بينهم أطفال وشباب، وهو ما يؤكد غياب الرقابة، بسبب دخول هذه الألعاب الخطرة فى بورسعيد، رغم حظرها»، على حد قوله.
لم يعد يقتصر استخدام مسدسات الخرز على الأطفال فقط، بل يستخدمه المراهقون تحت سن الـ 16 فى التحرش بالفتيات. محمد خيرى، الشاب العشرينى، قاده القدر إلى المرور فى شارع الجيش ببورسعيد، ثالث أيام العيد، ليفاجأ بمجموعة من المراهقين يلاحقون فتاتين، ويطلقون طلقات خرز على جسديهما، فقام بتوبيخهم، إلا أن أحدهم فاجأه بإطلاق خرز فى عينه، ليسقط محمد، مغشيا عليه، وينقله الأهالى إلى مستشفى الرمد لتلقى العلاج.
يقول أحمد خيرى، والد محمد: «فوجئت باتصال هاتفى من ابنى يخبرنى فيه بإصابته بطلق خرز فى عينه، فتوجهت إلى مستشفى الرمد، ووجدته مكتظا بالمصابين، ورفضت علاجه بالمستشفى، بسبب نقص الإمكانيات، واضطررت إلى نقله إلى أحد المستشفيات الخاصة الذى كلفنى 8 آلاف جنيه».
ينتقد «خيرى» المسؤولين فى جمرك بورسعيد الذين سمحوا بدخول مسدسات الخرز الممنوع تداولها فى الأسواق، إلى جانب «سقوط محافظة بورسعيد من ذاكرة وزارة الصحة»، على حد قوله، بسبب نقص الخدمات فى مستشفيات الوزارة بالمحافظة. يضيف: «فوجئنا، هذا العام، بانتشار مسدسات الخرز على الأرصفة وداخل المكتبات، رغم أنه ممنوع تداولها، لأن المستوردين يهمهم تحقيق ربح تجارى، بغض النظر عن المصائب التى تخلفها تجارتهم المحرمة».
رحلة طويلة من بورسعيد إلى أحد المستشفيات الخاصة بالعيون كانت الخيار الوحيد أمام محمد السيد، لإنقاذ عين ابنه الوحيد من العمى، «أحمد»، ابن التاسعة عشرة، كان يسير وسط أصدقائه، فى ثانى أيام عيد الأضحى الأخير، وأثناء مروره وسط مجموعة من الأطفال، استقبل طلقة خرز تسببت فى نزيف بالخزانة الأمامية للعين، حسب التقرير الطبى الرسمى. اتصل صديقه بوالد «أحمد» الذى انهار، لحظة سماع خبر إصابة عين ابنه. انطلق إلى مستشفى الرمد، إلا أن أحد الأطباء نصحه بضرورة نقل ابنه إلى القاهرة، لتلقى العلاج، بسبب نقص الإمكانيات بالمستشفى، فلم يكن أمام الأب بديل عن السفر إلى القاهرة، وكانت رحلة صعبة عاشتها أسرة «أحمد»، بسبب وصوله إلى القاهرة، وقت حظر التجوال.
يقول محمد السيد، والد المصاب: «كنت أموت كل لحظة وأنا شايف عين ابنى الوحيد بتنزف دم، وقمنا بإجراء الإسعاف الأولى، لوقف نزيف العين، إلا أن استشارى العيون نصحنى بنقل ابنى إلى القاهرة، بسبب نقص الأجهزة فى بورسعيد، وعانيت بشدة لحظة وصولى إلى القاهرة، وقت حظر التجوال، ومريت على أكمنة طوال الطريق، إلا أنهم تفهموا الموقف، وتم حجز ابنى لمدة 10 أيام لتلقى العلاج».
داخل محل ضيق لا تتجاوز مساحته المترين وخلف فاترينة مزينة بلعب أطفال جلس شاب ثلاثينى يغلف مسدس أطفال داخل كيس بلاستيك شفاف، وبمجرد سؤاله عن امتلاكه مسدس خرز أطفال من عدمه، خلع نظارته الطبية، لينظر لى بتمعن، ويرد باقتضاب بلهجته البورسعيدية: «معندناش مسدسات خرز، دى ممنوع بيعها فى السوق»، إلا أنه مع الإلحاح على شراء المسدس بأى ثمن، لإهدائه إلى ابنى الوحيد، مع وعده بعدم الإبلاغ عن اسم المحل، فيصمت الشاب لحظات، ويسألنى عن محل إقامتى، فأخبرته بأنى جئت من القاهرة، فى زيارة إلى أحد أقاربى ببورسعيد، وسأرحل فى نفس اليوم، فيطلب منى الشاب المجىء إليه، بعد ثلاث ساعات، لشراء المسدس من صديقه، صاحب محل لعب الأطفال، مقابل 65 جنيها.
3 ساعات مرت على مقابلة الشاب، صاحب محل لعب الأطفال، التقيته بعدها، ووجدته يخرج من المحل، ويتأكد من وجود شخص بصحبتى من عدمه، ليسلمنى المسدس داخل شنطة بلاستيكية سوداء، قائلا: «المسدس ده بقى بيعه زى المخدرات، الشرطة بتعمل محضر للمحل اللى بيبيعه، بس انا حبيت اعمل معاكى واجب علشان انتى غريبة عن البلد، بس خدى بالك وابنك بيلعب بيه، علشان ممكن يئذى بيه حد».
جولة داخل محال أطفال بورسعيد ترسم لك صورة واحدة، فمعظم أصحاب المحال ينفون امتلاكهم مسدسات الخرز، بحجة أنها ممنوع تداولها فى السوق، رغم أن كمية كبيرة من مسدسات خرز الأطفال دخلت بورسعيد، بطريقة غير شرعية، وهو ما أكده أحمد نادر، صاحب محل لعب أطفال ببورسعيد، قائلا: «كانت مسدسات الخرز تباع فى محال لعب الأطفال وعلى الأرصفة، أيام العيد، وكان سعرها يبدأ من 25 جنيها ووصل إلى 50 جنيها، رابع أيام العيد، بسبب الإقبال على شرائها من الأطفال، إلا أنه بعد انتهاء عيد الأضحى، ظهرت دعوات على مواقع التواصل الاجتماعى تدعو إلى الامتناع عن بيع مسدسات الخرز، بسبب إصابة ما يزيد على 300 شخص من المحافظة، بسبب دخول طلقات الخرز فى عيونهم، وبعدها نزلت حملات أمنية على محال بيع الأطفال تبحث عن مسدسات الخرز، وقامت بمصادرتها من المحال التى تبيعها».
يوضح محمود حسين، صاحب محل لعب أطفال، أن الألعاب النارية المحظورة توزع على محال لعب الأطفال عبر تاجر معروف ببورسعيد، رفض ذكر اسمه، قبل قدوم شهر رمضان وأيام عيدى الفطر والأضحى، على أنها لعب أطفال. يضيف: «بعت 35 قطعة مسدس خرز فى العيد اللى فات، وخلصت الكمية فى أول وتانى يوم العيد، لأن الإقبال عليها كبير من الشباب والأطفال، بس ما كنتش اعرف ان المسدس هيئذى الناس، علشان كده قررت ما ابيعش المسدس تانى، مهما كان مكسبه كبير».
زيارة واحدة إلى مستشفى الرمد ببورسعيد توضح نقص الخدمات الطبية التى يعانى منها سكان المدينة، فـ«المستشفى ليس لديه وحدة لجراحات الشبكية والجسم الزجاجى بالعين، ولم يستقبل المستشفى أى أجهزة طبية حديثة، منذ 12 عاما»، حسب تصريحات الدكتور حسام حسين، مدير المستشفى، رغم مخاطبته المسؤولين بوزارة الصحة أكثر من مرة لتوفير الأجهزة اللازمة، لإجراء العمليات الجراحية، إلا أنه لم يستمع له أحد، حسب قوله.
«فوهة المسدس وسعت، وخرزه أصبح أثقل» بهذه الكلمات لخص الدكتور حسام حسين، استشارى العيون، ومدير مستشفى الرمد، أسباب تفاقم خطورة مسدسات الخرز وتسببها فى الإصابة بجروح قطعية فى القرنية، ويضيف: «فى السنوات الماضية، لم يكن مسدس الخرز بهذا الحجم، ولم تكن طلقات الخرز بهذا الثقل الذى نراه هذه الأيام، الأمر الذى أدى إلى استقبال العين جسما صلبا ثقيلا يتسبب فى فقدان العين، فى بعض الأحيان، إذا لم يتم التعامل مع الإصابة بسرعة وبشكل سليم».
يشير «حسين» إلى أن المستشفى استطاع التعامل الأولى مع المصابين بطلقات خرز، خلال أيام عيد الأضحى الماضى، من خلال تنظيف الجرح، وإغلاقه، والسماح للمصابين بمغادرة المستشفى، فى نفس اليوم، بينما كانت هناك حالات تستوجب تحويلها لجراح الشبكية الذى كان يتعامل مع الإصابة، حسب إمكانيات المستشفى، مشيرا إلى أن هناك 4 حالات غادرت المستشفى إلى القاهرة على مسؤوليتهم الشخصية، لخطورة إصابتهم التى تستدعى أجهزة غير متوافرة داخل المستشفى الذى لا توجد به وحدة للتعامل مع الجزء الخلفى للعين، كما أن مدن القناة كلها بشكل عام تخلو من وحدة جراحات الشبكية والجسم الزجاجى، ليصبح أقرب مكان لمصاب بورسعيد مدينة المنصورة بمحافظة الدقهلية أو مدينة الزقازيق بمحافظة الشرقية أو محافظة القاهرة، لذلك نعمل بالجهود الذاتية داخل المستشفى. يتابع «حسين»: «خاطبت محافظة بورسعيد وزارة الصحة، لتوفير (جهاز أرجون ليزر)، لعلاج الشبكية، وجهاز تفتيت المياه البيضاء بالموجات الصوتية، لأنهما لا يتوافران فى بورسعيد كلها، إلا أنه لم يستجب لنا أحد».
من جانبه، يوضح أحمد السمان، رئيس الإدارة المركزية لمكافحة التهرب الجمركى، أن الألعاب النارية المحظور تداولها فى الأسواق ومن بينها مسدسات الخرز تدخل إلى مصر بطريقة غير شرعية عبر منافذ غير جمركية، وهى السواحل، من خلال تعبئة البضاعة بشكل جيد داخل أكياس محكمة الغلق، وتلقى فى البحر، ثم يتلقاها التاجر، ويبدأ توزيعها على محال لعب الأطفال، وبعضها يدخل بسبب قصور فى إجراءات الكشف والمعاينة داخل الجمارك، إضافة إلى الغياب الأمنى الذى كان ضمن أسباب دخول هذه الألعاب المحظورة، خاصة بعد ثورة يونيو، مؤكدا أنه حرر محاضر ضد شحنات ألعاب نارية، منذ يناير حتى سبتمبر الماضى، بقيمة 86 مليونا و658 ألف جنيه.
بقدميها الحافيتين أسرعت تجرى خلف بالون أحمر دفعه الهواء بعيدا، تصطدم ساقاها بحجر يسقطها على الأرض، تنطلق ضحكة صافية، وتستجمع قوتها لتنطلق من جديد، تختبئ من شقيقها الأكبر خلف جدار لم يستكمل بناؤه، تنظر بعينيها اللامعتين، باحثة عن شقيقها، إلا أنها تستقبل طلقة خرز صادرة من مسدس بلاستيك يلهو به جارها، لتستقر داخل عينها. ينطفئ نور عين «إيمان»، فى لحظة، تسقط على الأرض، غارقة فى دمائها، ويتلون فستانها الأبيض باللون الأحمر.
داخل عشة من الخوص على أطراف محافظة بورسعيد تعيش إيمان محمود إبراهيم التى استكملت عامها الثانى، أول أيام عيد الأضحى، وهو نفس اليوم الذى فقدت فيه عينها. هرولت الأم، الأربعينية، عند سماع صراخ طفلتها الصغيرة، وسط ذهول من اندفاع الدم من عين ابنتها اليسرى بغزارة، تحملها على ذراعيها، وتذهب بها مسرعة إلى مستشفى الرمد، لتفاجأ الأم بمئات من الشباب يفترشون طرقات المستشفى جميعهم مصابون بطلقات خرز. تقبل يد ممرضة فى أحد العنابر، وتستحلفها، قائلة: «الحقى بنتى مش عارفة اللى حصلها، لقيتها غرقانة فى دمها قدام العشة».
لم تتحمل الأم خبر فقدان «إيمان» عينها اليسرى، فسقطت مغشيا عليها، وسط صرخات أقاربها. تقول: «أنا بعيش مع زوجى، سائق التاكسى، داخل عشة، وعندى ولد وبنت، وأول يوم العيد، خرجت بنتى (إيمان) تتفرج على العيال اللى بتلعب فى الشارع، وفجأة، سمعت صراخ (إيمان)، ولقيتها بتنزف من عينها، فجريت عليها، وماكنتش اتخيل ان عين بنتى تروح فى لحظة، بسبب طلقة خرز، ومش عارفة اتصرف ازاى، لأن الدكتور قالى لازم بنتك تتابع فى المستشفى، علشان عينها التانية تفضل سليمة».
ليست «إيمان» الحالة الوحيدة التى استقبلها مستشفى الرمد ببورسعيد، فى أول أيام عيد الأضحى، مصابة بجرح قطعى فى القرنية، بسبب دخول طلقة خرز فى العين، فالمستشفى استقبل 326 حالة، خلال أيام عيد الأضحى، ويوم وقفة عرفة، حسب تصريحات الدكتور حسام حسين، مدير مستشفى الرمد ببورسعيد، الذى أكد أنه «للمرة الأولى يستقبل المستشفى هذه الأعداد الضخمة من المصابين بطلقات خرز، والمصابون من بينهم أطفال وشباب، وهو ما يؤكد غياب الرقابة، بسبب دخول هذه الألعاب الخطرة فى بورسعيد، رغم حظرها»، على حد قوله.
لم يعد يقتصر استخدام مسدسات الخرز على الأطفال فقط، بل يستخدمه المراهقون تحت سن الـ 16 فى التحرش بالفتيات. محمد خيرى، الشاب العشرينى، قاده القدر إلى المرور فى شارع الجيش ببورسعيد، ثالث أيام العيد، ليفاجأ بمجموعة من المراهقين يلاحقون فتاتين، ويطلقون طلقات خرز على جسديهما، فقام بتوبيخهم، إلا أن أحدهم فاجأه بإطلاق خرز فى عينه، ليسقط محمد، مغشيا عليه، وينقله الأهالى إلى مستشفى الرمد لتلقى العلاج.
يقول أحمد خيرى، والد محمد: «فوجئت باتصال هاتفى من ابنى يخبرنى فيه بإصابته بطلق خرز فى عينه، فتوجهت إلى مستشفى الرمد، ووجدته مكتظا بالمصابين، ورفضت علاجه بالمستشفى، بسبب نقص الإمكانيات، واضطررت إلى نقله إلى أحد المستشفيات الخاصة الذى كلفنى 8 آلاف جنيه».
ينتقد «خيرى» المسؤولين فى جمرك بورسعيد الذين سمحوا بدخول مسدسات الخرز الممنوع تداولها فى الأسواق، إلى جانب «سقوط محافظة بورسعيد من ذاكرة وزارة الصحة»، على حد قوله، بسبب نقص الخدمات فى مستشفيات الوزارة بالمحافظة. يضيف: «فوجئنا، هذا العام، بانتشار مسدسات الخرز على الأرصفة وداخل المكتبات، رغم أنه ممنوع تداولها، لأن المستوردين يهمهم تحقيق ربح تجارى، بغض النظر عن المصائب التى تخلفها تجارتهم المحرمة».
رحلة طويلة من بورسعيد إلى أحد المستشفيات الخاصة بالعيون كانت الخيار الوحيد أمام محمد السيد، لإنقاذ عين ابنه الوحيد من العمى، «أحمد»، ابن التاسعة عشرة، كان يسير وسط أصدقائه، فى ثانى أيام عيد الأضحى الأخير، وأثناء مروره وسط مجموعة من الأطفال، استقبل طلقة خرز تسببت فى نزيف بالخزانة الأمامية للعين، حسب التقرير الطبى الرسمى. اتصل صديقه بوالد «أحمد» الذى انهار، لحظة سماع خبر إصابة عين ابنه. انطلق إلى مستشفى الرمد، إلا أن أحد الأطباء نصحه بضرورة نقل ابنه إلى القاهرة، لتلقى العلاج، بسبب نقص الإمكانيات بالمستشفى، فلم يكن أمام الأب بديل عن السفر إلى القاهرة، وكانت رحلة صعبة عاشتها أسرة «أحمد»، بسبب وصوله إلى القاهرة، وقت حظر التجوال.
يقول محمد السيد، والد المصاب: «كنت أموت كل لحظة وأنا شايف عين ابنى الوحيد بتنزف دم، وقمنا بإجراء الإسعاف الأولى، لوقف نزيف العين، إلا أن استشارى العيون نصحنى بنقل ابنى إلى القاهرة، بسبب نقص الأجهزة فى بورسعيد، وعانيت بشدة لحظة وصولى إلى القاهرة، وقت حظر التجوال، ومريت على أكمنة طوال الطريق، إلا أنهم تفهموا الموقف، وتم حجز ابنى لمدة 10 أيام لتلقى العلاج».
داخل محل ضيق لا تتجاوز مساحته المترين وخلف فاترينة مزينة بلعب أطفال جلس شاب ثلاثينى يغلف مسدس أطفال داخل كيس بلاستيك شفاف، وبمجرد سؤاله عن امتلاكه مسدس خرز أطفال من عدمه، خلع نظارته الطبية، لينظر لى بتمعن، ويرد باقتضاب بلهجته البورسعيدية: «معندناش مسدسات خرز، دى ممنوع بيعها فى السوق»، إلا أنه مع الإلحاح على شراء المسدس بأى ثمن، لإهدائه إلى ابنى الوحيد، مع وعده بعدم الإبلاغ عن اسم المحل، فيصمت الشاب لحظات، ويسألنى عن محل إقامتى، فأخبرته بأنى جئت من القاهرة، فى زيارة إلى أحد أقاربى ببورسعيد، وسأرحل فى نفس اليوم، فيطلب منى الشاب المجىء إليه، بعد ثلاث ساعات، لشراء المسدس من صديقه، صاحب محل لعب الأطفال، مقابل 65 جنيها.
3 ساعات مرت على مقابلة الشاب، صاحب محل لعب الأطفال، التقيته بعدها، ووجدته يخرج من المحل، ويتأكد من وجود شخص بصحبتى من عدمه، ليسلمنى المسدس داخل شنطة بلاستيكية سوداء، قائلا: «المسدس ده بقى بيعه زى المخدرات، الشرطة بتعمل محضر للمحل اللى بيبيعه، بس انا حبيت اعمل معاكى واجب علشان انتى غريبة عن البلد، بس خدى بالك وابنك بيلعب بيه، علشان ممكن يئذى بيه حد».
جولة داخل محال أطفال بورسعيد ترسم لك صورة واحدة، فمعظم أصحاب المحال ينفون امتلاكهم مسدسات الخرز، بحجة أنها ممنوع تداولها فى السوق، رغم أن كمية كبيرة من مسدسات خرز الأطفال دخلت بورسعيد، بطريقة غير شرعية، وهو ما أكده أحمد نادر، صاحب محل لعب أطفال ببورسعيد، قائلا: «كانت مسدسات الخرز تباع فى محال لعب الأطفال وعلى الأرصفة، أيام العيد، وكان سعرها يبدأ من 25 جنيها ووصل إلى 50 جنيها، رابع أيام العيد، بسبب الإقبال على شرائها من الأطفال، إلا أنه بعد انتهاء عيد الأضحى، ظهرت دعوات على مواقع التواصل الاجتماعى تدعو إلى الامتناع عن بيع مسدسات الخرز، بسبب إصابة ما يزيد على 300 شخص من المحافظة، بسبب دخول طلقات الخرز فى عيونهم، وبعدها نزلت حملات أمنية على محال بيع الأطفال تبحث عن مسدسات الخرز، وقامت بمصادرتها من المحال التى تبيعها».
يوضح محمود حسين، صاحب محل لعب أطفال، أن الألعاب النارية المحظورة توزع على محال لعب الأطفال عبر تاجر معروف ببورسعيد، رفض ذكر اسمه، قبل قدوم شهر رمضان وأيام عيدى الفطر والأضحى، على أنها لعب أطفال. يضيف: «بعت 35 قطعة مسدس خرز فى العيد اللى فات، وخلصت الكمية فى أول وتانى يوم العيد، لأن الإقبال عليها كبير من الشباب والأطفال، بس ما كنتش اعرف ان المسدس هيئذى الناس، علشان كده قررت ما ابيعش المسدس تانى، مهما كان مكسبه كبير».
زيارة واحدة إلى مستشفى الرمد ببورسعيد توضح نقص الخدمات الطبية التى يعانى منها سكان المدينة، فـ«المستشفى ليس لديه وحدة لجراحات الشبكية والجسم الزجاجى بالعين، ولم يستقبل المستشفى أى أجهزة طبية حديثة، منذ 12 عاما»، حسب تصريحات الدكتور حسام حسين، مدير المستشفى، رغم مخاطبته المسؤولين بوزارة الصحة أكثر من مرة لتوفير الأجهزة اللازمة، لإجراء العمليات الجراحية، إلا أنه لم يستمع له أحد، حسب قوله.
«فوهة المسدس وسعت، وخرزه أصبح أثقل» بهذه الكلمات لخص الدكتور حسام حسين، استشارى العيون، ومدير مستشفى الرمد، أسباب تفاقم خطورة مسدسات الخرز وتسببها فى الإصابة بجروح قطعية فى القرنية، ويضيف: «فى السنوات الماضية، لم يكن مسدس الخرز بهذا الحجم، ولم تكن طلقات الخرز بهذا الثقل الذى نراه هذه الأيام، الأمر الذى أدى إلى استقبال العين جسما صلبا ثقيلا يتسبب فى فقدان العين، فى بعض الأحيان، إذا لم يتم التعامل مع الإصابة بسرعة وبشكل سليم».
يشير «حسين» إلى أن المستشفى استطاع التعامل الأولى مع المصابين بطلقات خرز، خلال أيام عيد الأضحى الماضى، من خلال تنظيف الجرح، وإغلاقه، والسماح للمصابين بمغادرة المستشفى، فى نفس اليوم، بينما كانت هناك حالات تستوجب تحويلها لجراح الشبكية الذى كان يتعامل مع الإصابة، حسب إمكانيات المستشفى، مشيرا إلى أن هناك 4 حالات غادرت المستشفى إلى القاهرة على مسؤوليتهم الشخصية، لخطورة إصابتهم التى تستدعى أجهزة غير متوافرة داخل المستشفى الذى لا توجد به وحدة للتعامل مع الجزء الخلفى للعين، كما أن مدن القناة كلها بشكل عام تخلو من وحدة جراحات الشبكية والجسم الزجاجى، ليصبح أقرب مكان لمصاب بورسعيد مدينة المنصورة بمحافظة الدقهلية أو مدينة الزقازيق بمحافظة الشرقية أو محافظة القاهرة، لذلك نعمل بالجهود الذاتية داخل المستشفى. يتابع «حسين»: «خاطبت محافظة بورسعيد وزارة الصحة، لتوفير (جهاز أرجون ليزر)، لعلاج الشبكية، وجهاز تفتيت المياه البيضاء بالموجات الصوتية، لأنهما لا يتوافران فى بورسعيد كلها، إلا أنه لم يستجب لنا أحد».
من جانبه، يوضح أحمد السمان، رئيس الإدارة المركزية لمكافحة التهرب الجمركى، أن الألعاب النارية المحظور تداولها فى الأسواق ومن بينها مسدسات الخرز تدخل إلى مصر بطريقة غير شرعية عبر منافذ غير جمركية، وهى السواحل، من خلال تعبئة البضاعة بشكل جيد داخل أكياس محكمة الغلق، وتلقى فى البحر، ثم يتلقاها التاجر، ويبدأ توزيعها على محال لعب الأطفال، وبعضها يدخل بسبب قصور فى إجراءات الكشف والمعاينة داخل الجمارك، إضافة إلى الغياب الأمنى الذى كان ضمن أسباب دخول هذه الألعاب المحظورة، خاصة بعد ثورة يونيو، مؤكدا أنه حرر محاضر ضد شحنات ألعاب نارية، منذ يناير حتى سبتمبر الماضى، بقيمة 86 مليونا و658 ألف جنيه.
0 التعليقات:
Post a Comment