هناك تساؤل متردد، منتشر رغم ذلك، و هو أنه إذا كان الإنقلاب الذي تمَّ في مصر شبيه بعشرات غيره في أمريكا الجنوبية و اللاتينية .. فهل يصحُّ قولنا أن الانقلاب المصري جاء (ضد الدين الإسلامي)؟ ثم هذا يصل بنا إلى سؤال أكثر عمومًا: هل يصحُّ قولنا أن الصراع العالمي أصلًا له صُلبٌ دينيّ ؟
....
أولًا :
أن انقلابات أمريكا اللاتينية قد تم أغلبها بسبب صراع السلطة العسكرية مع المدنية ، و هذا من حب التسلّط و الفرعنة و مبدأ (أنا خير منه) الشياطنيّ الأزلي .. و صراع التفرعن و العلو و الطغيان ضد المستضعفين هو صراع دينيّ على سيادة الدنيا، و لا يخالف مسلم في أن هناك صراع واجب بين الفراعنة و المستضعفين، و قد يكون المتفرعن الطاغية مسلمًا يقيم الفروض كلها في المسجد، مع ذلك تبقى فرعنته و طغيانه و استبداده سببًا للخروج عليه عند كثير من أهل العلم و الفقهاء، فهل هذا (الصراع) لا علاقة له بالدين؟ بل هو صراع دينيّ فلا يحلُّ لأحد أصلًا أن يخرج في قتال إلا جهادًا في سبيل الله حتى لو ضد من طغى و تكبر و تفرعن ..
ثم بعد ذلك يجيء السبب التالي في الانقلابات الشائعة و هو (رفض أي حركة تحرر وطني من النظام العالمي) خاصة لو اتحدت حركة التحرر هذه مع شكل عقائدي (كالشيوعية) أو (الإسلام).. و الانقلابات الأشهَر في أمريكا الجنوبية كانت بسبب حركات تحرر وطني أخذت شكل اقتصادي شيوعي في بعض الجوانب أو (اشتراكي بشكل عام) مما حرّك أمريكا -المتحسسة لما يجري على عتبة دارها- سريعًا لضربه و التخلص منه ..
فهل يعني تعدد الأعداء بالنسبة للنظام العالمي الغربي الحاكم انتفاء الشكل (العقائدي) للصراع بين المسلمين و غيرهم؟
من المفترض أن المسلم لديه معاداة مع الغرب الملحد -بخلفية صليبية صهيونية قوية- و الشرق بحر الأديان الفلسفية و الشِرك.. فهل يصحُّ أن يقوم باحث أوروبي بنفي معاداة المسلمين لهؤلاء على أساس دينيّ و البحث فقط في أسباب العداء الجيوبوليتكية و الاقتصادية كان يقول أن مشكلة المسلمين التاريخية مع الهندوسية كانت لمحاولة الهيمنة الاقتصادية و السياسية على شبه القارة الهندية؟ أم أن الأمر ظلَّ (صراعًا دينيًا) بين المسلمين و الشِرك كان أحد جوانبه الصراعات المذكورة؟
.
الخلاصة الجزئية:
أن صراع الطغيان ضد البشر.. هو صراع دينيّ:بين دين الفرعنة و دين المساواة في العبادة لله..
و أن تعدد الأعداء لكل طرف متصارع لا ينفي أصول العداء الإسلامي-الكفري.. فالصين مثلًا لها عداوة تاريخية مع الهند و لا يعني هذا أبدًا أن صراعهما مع المسلمين لا أساس عقائدي له..
___
___
ثانيًا:
أن الفكر الإسلامي أغلب القرن الماضي عمومه لم يكن يتحدث عن (حرب إبادة جماعية) للمسلمين.. بل تحدث مُطولًا عن (ترويض الإسلام).. و التعبير الأشهر لسيد قطب: الإسلام الأمريكي.. يوضِّح بجلاء أن الفكر المتبني لرؤية الصراع منذ وقت مبكِّر جدًا نبه إلى أن أطراف الصراع مع المسلمين يريدون نوعًا خاصًا من الإسلام: (الإسلام الأوروبي) بتعبير أوليفييه روا! و هو إسلام يقبل العيش بسعادة في كنف سيده الغربي، مشغولًا بتفاصيل كثيرة كلها بعيدة كل البعد عن شمولية الدين الإسلامي و دوره في الصراع الكوني التاريخي بين الحق و الباطل.. لم يتحدث أحد أن المطلوب حاليًا هو (إبادة المسلمين) خاصة أن هذه الفكرة فاشلة تاريخيًا وواقعيًا و حرب البوسنة (دولة مسلمة ضعيفة وسط بحر صليبي حاقد يلطم بعضه بعضًا) أوضحت بجلاء سقوط نظرية (التطهير العرقي و الإبادة الجماعية للمسلمين! هذا و البوسنة بين كروات و صرب مجانين، و تتوافر فيها كل مقومات نجاح عملية التطهير العرقي و الإبادة الجماعية، مع ذلك فشلت هذه الإبادة! إذن لم يعد من اليسير أبدًا تكرار حالة (الأندبيندنتي) الأسبانية!
هكذا صار الحل الأوفق (في القرون الأخيرة من الصراع) هو التخلّي عن أسلوب التطهير الأندلسي و الحروب الصليبية القروسطية الصريحة ، و قبول إسلام معيَّن يُروَّض المسلمون به، هكذا يعلو النمط السلفي الخليجي الذي يُجلدُ أو يرجمُ فيه الرعية الزناة حدًا، بينما يلوط الغربي مع حكامه في أمان!
و قُبِل إسلام علماني يقول فيه الحاكم عن نفسه أنه (الرئيس المؤمن) بينما لا ينفكُّ يردد في كل حين (لا دين في السياسة .. و لا سياسة في الدين)..
و قُبِل إسلام صوفي لا يخلع عباءة الدروشة أبدًا شعاره في الدنيا المبدأ الكنسي (دع ما لقيصر لقيصر و ما لله لله) !
قُبِل كل هذا .. و أُزيح من المشهد كل إسلام حقيقيّ شامل لا يقبل إلا الاستقلال و الحركة و الدعوة و الفتح..
.
الخلاصة الجزئية:
أن الحرب الاستئصالية للبشر لم يعد الغرب يتبناها مع المسلمين منذ قرون مضت.. إنما سياسته صارت (استئصال الأفكار الضارة) و تدعيم الإسلام المنسحق الذي يرضى بدور العبودية.. بتعبير آخر للورد كرومر (الأسلوب الصحيح للحكم لا يتمثل في محاولة فرض التدابير العلمية الفائقة عليه أو إرغامه جسديًا على تقبل المنطق، بل في تفهم جوانب قصوره و محاولة العثور في رضى الجنس المحكوم على رابطة أنبل أقوى و أقدر على التوحيد بين الحكام و المحكومين) و هو ما سيعلق عليه إدوارد سعيد بالقول أنه (خلف تطييب خاطر الجنس المحكوم و ترضيته يختبئ جبروت الإمبراطورية، و هو أشد فعالية حين يبدي التفهم المرهف المهذب من فعالية اللجوء إلى استخدام الجند، و جباة الضرائب الغشومين، والقوة المفرطة).. و نرجع لكرومر لنقرأ المطلوب النهائي لهذا القبول لبعض أشكال الإسلام أو المسلمين أو الوطنيين الشرقيين بشكل عام (لابد أن نرعى لونًا من الولاء للمواطنة العالمية يقوم على الاحترام الذي |نضفيه| عادة على المواهب المتفوقة، و على سلوك من يؤثر غيره على نفسه، و على الامتنان الذي نلقاه مقابل ما أسدينا و ما سوف نسدي من معروف، و سوف نرى عندها بعض بوارق الأمل في أن يبدي المصري ترددًا قبل أن يراهن بمستقبله مع (أحمد عرابي) آخر مستقبلًا !!!
بل إن المتوحش من سكان وسط أفريقيا قد يتعلم إنشاد ترنيمة تكريمًا لربة العدالة التي عادت، ممثلة في المسئول البريطاني!!)..
هذا هو مختصر السياسة الغربية العامة حاليًا مع المسلمين و غيرهم من أعدائها المقهورين، سياسة تريد صراحة ألا ترى مقاومة مرة أخرى أو حتى المقامرة على رجل مُقاوِم كعرابي.. لابد ألا يكون هناك اكتفاء بالذِلّة و الصِغار و الانسِحاق.. بل لابد أن يُستأصل فكر المواجهة من القلوب حتى أعمق الأعماق! و لن يكون هذا إلا بالإنشاد للغربي العادل البشوش لطيف المعشر المتفهِم!
إن كان هناك أسلام يحقق هذا: فحي هلا!
و هو الأمر المتحقق بالفعل منذ قرن أو يزيد.. فلا مكان لدين الإسلام الشامل.. و إن تشرب به شعب من الشعوب أو فكر في تجريبه صُبَّ عليه العذاب صبًا.. كما تسامحت الصين مع المسلمين قرونًا طويلة ماداموا خاضعين منسحقين تحت حكم الشِرك، أما حينما قرر المسلمون رد بغي سلالة قينج الحاكمة كان الجواب إبادة شاملة لكل من يحمل روح المقاومة و الإبقاء فقط على الداجن المتذلل!
____
____
ثالثًا: أن صراع قارون مع قومه كان اقتصاديًا في أصله و صلبه، فالتجبُّر الذي أظهره كان فيه (احتكار) للموارد و رأسمالية فاحشة لا تعبأ ببشر و لا إله .. مع ذلك عُدَّ ذلك (قرآنيًا) داخلًا في الصراعات الدينية التي تستحق العقاب المزلزل (الخسف) ..
إذن فحتى على اعتبار أن الصراعات العالمية الحالية أساسها اقتصاديّ، فهذا لا يعني أبدًا أن هذا ينزع عنها الحلة الدينيَة .. بل إن الصراع الاقتصادي أحد جوانب ذلك الصراع الديني .. و لا يعني أنه أظهر من غيره حاليًا أن نعتبره هو الجانب الوحيد أو الأسمى أبدًا .. صراع قوم الإسراف و التبذير الذي يؤدي للطغيان مع الفقراء و المساكين و المستضعفين هو صراع دينيّ قرآني .. فهو نفسه صراع قارون مع قومه.. و التجارة مُكوِّن استعماري لا أحد ينفيه منذ المبدأ الاستعماري الأوروبي المُبسّط الأولي 3C: المسيحية Christianity.. التجارة commerce.. الحضارة civilization..
كما لم يكن صراع (عبئ الرجل الأبيض) بعيدًا عن الدين.. فهذا هو (عزاء الجاهلية) مرة أخرى الذي حاربه الإسلام و هو الافتخار بشيء غير دين الله كنسب أو لون أو عِرق عام..
لم يتحول الصراع يومًا بعيدًا عن الدين.. يمكن تصديق ذلك إن قصرنا الدين في عبادات و صلاة و زكاة و شماغ و عباءة سوداء فضفاضة! لكن الإيمان بالإسلام كدين شامل (صلاتي و نسكي و محياي و مماتي لله رب العالمين) يجعلك تعلّم يقينًا أن الصراع أعمق بكثير من مجرد المظاهر الواضحة، كما كان الدعاة قبلًا يركزّون على مسألة التبرج و رفض اللحية كدليل على عداوة الغرب للإسلام دون البحث طويلًا في خلفيات المسألة و أعماقها، فنشأت أحيال ترى الإسلام لحية و غطاء شعر و صلاة مع صيام، مما أصابها بالارتباك الشديد عندما رأت محجبة في إدارة أوباما و لحية في فريق انقلاب السيسي و صلاة طواغيت العرب و صيامهم!
انتهت موضة بورقيبة و أتاتورك منذ زمن.. زمن العلمانية القبيحة الواضحة.. نحن في زمن آخر.. فقط من يتدبّر الناتج النهائي للأمة سيجد أنه لم يتغير شيء في وضعها كأمة تحمل مسئولية نشر الدين الشامل للبشرية! إذن فلا فرق حقيقي بين أتاتورك مُحتقِر الصلاة و السيسي الذي يبكي خلالها بحرقة: كلاهما صرّح بمعادة فكرة عالمية الإسلام أو مشاركته في الحكم..
.
الخلاصة الجزئية:
أن الإسلام كدين شامل يشن حربًا ضد الطغيان المالي و يرفضه.. و الغرب كذلك كأي طاغية قارونيّ الطابع يمكنه أن يشن حربًا كاملة من أجل المال و المال وحده.. أو الطغيان و التملك وحدهما.. لكن يظلّ كل هذا داخلًا في إطار الصراع الديني.. و محاولة أظهار الأمر كأن الغرب لا يهتم بالمسائل العقدية الدينية لأنه أحيانًا يتحالف مع مسلمين ضد غربيين حتى لابد من وضع سؤال مبدأي له: أي مسلمين الذين يتحالف معهم الغرب؟ و هل يمثلون تهديدًا له أم لا؟
فإن تحالف الغرب مع أتاتورك أو ناصر أو ملك السعودية لم يكن أبدًا تحالفًا مع (مسلم) بالمعنى الشامل الذي يقدمه الإسلام.. فهو تحالف مؤقت لا يضير جدران النادي الغربي بشيء، إنما غاية ما يصنعه هو إعادة ترتيب ضرورية لأعضاء مجلس إدارة النادي، كتحالف الألمان (الذين ينتمون للعرق التاريخي الغربي) مع العثمانيين في الحرب العالمية الأولى لإعادة ترتيب البيت العالمي كله..
و بالطبع لا يدخل في ذلك بشكل عام حالات شاذة نادرة لا تنفي القاعدة العامة ، كالغربي الواقع تحت هيمنة إسلامية، و كما جرى في فتح الأندلس من حرب أبناء غيطشة ضد بافي القوط، و هاته الحالات لا يفسرها إلا قول رسول الله عن مخيريق أنه (خير يهود) رغم يهوديته.. فقد كان حالة شاذة لا تنفي الأحكام العامة عن العرق التاريخي اليهودي.. و المخطيء من يتعامل مع الأمر إما بتساهل يصل لنفي مركزية الدين في الصراعات العالمية التاريخية، أو بتساهل لا يرى في الآخر ألا صندوق أسود معادي نافيًا إحتمال وجود بعض الحالات الشاذة التي يمكن تواجدها داخل هذا البحر المتلاطم من العداء.. فكل أمة عدوّة و لها مخيريق..
||
||
الخلاصة العامة:
تبنيك لمفهوم الدين الإسلامي الشامل، يجعلك تدرك يقينًا أن كافة تلك الحروب القائمة هي دينية الأصل و الجوهر، وإن تخفّت بمظاهر سطحية خادعة.. و أن الحالة المنفلتة الشاذَة لا ننفي القاعدة العامة إنما تثبت وجود ثغرات بشرية في أي كتلة مدلهمة مواجِهة.. فهي ليست كتلة صمّاء من الخراتيت بكل تأكيد..
و أن تغير استراتيجية العدو معك لا تعني أنه لم يعد عدوًا.. فعدم تبني الغرب لمبدأ المواجهة بغرض الإبادة الشاملة لا تعني أنه قد تخلى عن عداوتك و مبدأ مواجهتك أصلًا!
كما أن العدو ليس كتلة صماء بلا صراعات داخلية في العرف التاريخي الواحد أو بين الأديان المختلفة، و لا يعني أنه استعان بك بضع مرات كدرّاجة في بعض معاركة ضد عدو له أن الأصل الديني للصراع بينك و بينه قد زال.. فإن كنت مسلمًا بحق فلابد و حتمًا أن (يرهبك) كل (عدو لله) كما أمر القرآن..
فإن لم يرهبك، بل صار يدنيك و لم (يثقفك) كي (يكون لك عدوًا) يبسط إليك يديه و لسانه (قوته العسكرية و إعلامه) بالسوء يود من ذلك أن (تكفر) بالله.. فراجع وقتها رؤيتك للإسلام و عملك به.. فأنت -حتمًا- لست المسلم الذي أمرك الله أن تكونه..

0 التعليقات:
Post a Comment