درسنا في حقل العلوم السياسية النظام السياسي بمدخلاته ومخرجاته وفقا لما تحدث عنه عالم من علماء السياسة الرواد وهو ديفيدإيستون، واهتم الباحثون أكثر ما اهتموا في مقولاته بالمدخلات والمخرجات من غير الوقوف على ماذا يحدث في صندوق النظام السياسي والتفاعلات الظاهرة والباطنة فيه والعناصر والقوى البارزة في المشهد والأخرى التي تفعل وتتفاعل من وراء ستار؟، إلا أن البعض قد أهمل إهمالا كبيرا فكرة الصندوق الأسود التي توجد في أي نظام سياسي في هذا المقام وتعبر عن تلك المفاتيح غير المنظورة للتعرف عليه وعلى مفاصله وآلياته وقدرات تأثيره، وكنت أتندر مع طلبتي حينما كنا نشير إلى ذلك في إطار النظرية السياسية وحينما كنا نتحدث عن أهم السمات التي تتحدث فيها تلك الظاهرة وهي أن لكل ظاهرة سطح وعمق وأن البحث في عمق الظاهرة هو العمل البحثي الحقيقي حينما يقدر للباحث دراسة ظاهرة سياسية أو أخرى،أن الصندوق المتعلق بالنظام السياسى بجملته هو صندوق أسود.

كنت في ذلك الوقت أؤكد أن الصندوق الأسود للأسف الشديد في ظل منظومة الاستبداد والفساد إنما يحول منظومة صندوق النظام السياسي بأسره إلى صندوق أسود تمارس فيه السياسة في سوق سوداء لا تتمتع بدرجات المشروعية أو بحقيقة الشرعية هذا هو شأن نظم الاستبداد والفساد التي تعرف أن حركتها لإحكام هذه الشبكات لابد أن تتم في الخفاء بعيدا عن أعين الناس والشعوب، إنها مناطق داكنة السواد يُعتم عليها، وينتشر في جنباتها كل ظلم وظلمات.

ومن هنا كان من المهم أن نتعرف أن النظام السياسي على عهد الرئيس المخلوع مبارك كان تعبيرا حقيقياعن هذه الحالة السوداء التي تتعلق بالعملية السياسية والتي اتخذت مسارات كلها صبت في إطار سلبي يجعل من يبحث فيالنظام السياسي يزداد حيرة على حيرته وحينما يستخدم الأدوات المنهاجية المتاحة لا تتضح الصورة أمامه بأكثر من مظاهر بادية لم تكن في حقيقة أمرها إلا غطاء وتعتيما على تفاعلات وتحالفات كامنة هي التي تقوم بالصياغة الحقيقية للنظام السياسي وحركته.

وكان من أهم الإسهامات الحقيقية لثورة يناير بعد قرابة ثلاثين عاما من حكم المخلوع أن هذه الثورة وبفعل تلقائي كشفت عن قدرة الجماهير والشعوب حينما يعم الظلم من خلال شبكات فساد واستبداد فتعبأ ضد هذا النظام وتلك المنظومة فيكون ذلك دافعا لحركتها احتجاجا وانتفاضا بل وثورة، قدمت هذه الثورة انتصارا على ما كان يحدث في صندوق أسود لنظام مبارك المخلوع بمنظومة أخرى موازية قدمت في الحقيقة تفكيرا خارج الصندوق في شكل احتجاجي اتخذ من الأشكال والآليات ما لم تستطع شبكات الفساد والاستبداد أن تستوعبه أو تطوله بالتخويف أو التجريف، وبدا الشباب يقوم بممارسة خارج الصندوق في إطار صندوق آخر للتفكير يوازي صندوق النظام السياسي الذي تحول بأسره إلى صندوق أسود.

أوضحت ثورة 25 يناير وما تلاها من أحداث أن الأمر لا يتعلق بشخص المستبد ولكن الأمر يتعلق بشبكة استبدادية واسعة استطاعت أن تمكن لنفسها، وكذلك مؤسسات فساد واستبداد ترافقت معها فشكلت في حقيقة الأمر صندوق من التحالفات الاجتماعية والمجتمعية غير البريئة والتي هدفت لتمكين كل تلك الشبكات التي تهيمن على المجتمع وعلى مساراته وعلى مفاصله وكذلك بآليات نستطيع أن نحيل إليها بأنها بحق آليات الدولة العميقة بكل أجهزتها وكل آلياتها.

استند صندوق التحالفات هذا في حقيقة الأمر إلى صندوق مصالح آنية وأنانية وأهداف مصلحية جمعت كل هذه التحالفات رغم اختلافها وتصارعها إلا أنها في حقيقة الأمركانت تستفيد بأشكال متفاوتة من ذلك النظام وثمار استبداده وفساده، تكونت هذه المصالح للأسف الشديد عبر قوى سياسية كرتونية، وقوى ثقافية في خدمة السلطة والسلطان، وقوى إعلامية تمثلت في السحرة الجدد الذين قاموا بكل عمل يتعلق بغسيل المخ الجماعي والقدرة على التعبئة السوداء مستغلة في ذلك كل الغرائز الشعبوية والجماهيرية في طريق يمكن لكل عناصر تكريس مصالحها وتحقيق أهدافها.

لم يكن ذلك بحق إلا توصيفا لمعاني الدولة العميقة التي تشكل قاعدة لبناء هذه المصالح وقدرات هيمنتها وسيطرتها، وقد أشرنا في مقالات سابقة إلى هذه الدولة العميقة التي تجند عند اللزوم لبناء المواقف والاتجاهات بل إنها قد تسهم في تعبئة الناس وصناعة الواقع بما تشتهي وبما تريد تلك النخبة العقيمة التي تتحكم بمفاصل هذه الدولة العميقة بكل مؤسساتها وبشبكة أهدافها.

ومن هنا فإنه من الأهمية بمكان أن نؤكد أن هذه الصناديق جميعا من صناديق التحالفات والمصالح والدولة العميقة قد شكلت في النهاية قدرات سلبية في مواجهة إرهاصات ثورة حقيقية برزت في الخامس والعشرين من يناير وقدمت بذلك قاعدة لما يمكن تسميته بقوى الثورة المضادة التي تحركت في سياق الانقلاب في الثالث من يوليو بعد استغلال ما أسمته بمشهد ثورة لم يكن في حقيقة الأمر إلا تمكينا لثورة مضادة تتحرك بكل عناصرها وبكل غطاءاتها لتشكل ثورة على الثورة وهو ما يعني أن سقوط رأس النظام لم يكن إلا بداية لانصراف الثوار أو صراعاتهم البينية بينما تجمعت عناصر الثورة المضادة لتعمل مباشرة بعد الحادي عشر من فبراير لتستعيد سيطرتها وتسترد عناصر قوتها، وكانت المؤسسة العسكرية الفاعل الأكبرفي الصندوق الأسود الذي حمل كل هذه العناصر التى صنع بها الواقع لنصل فيه إلى ذروة ذلك بالحكم المباشر للمؤسسة العسكرية إن حكما أو تحكما.

ومن ثم فقد شكلت المراحل الانتقالية المختلفة مجالا تدافعيا بين القوى المختلفة لتكون عبر ثلاث سنوات منطقة كاشفة فارقة تفرز بين هذه العناصر التي حملتها نخبة متنوعة كنا نصفها بأنها نخبة محنَطة في فعلها وفاعليتها ولكننا اليوم بعد مرور ثلاث سنوات نحرك هذه الحروف فنصفها بأنها نخبة منحطة لم تكن بأي حال على مستوى هذه الحالة الثورية أو الأفق الذي تفتحه بصناعة الأمل والعمل والمستقبل.

قدمت هذه المراحل الانتقالية ما يمكن تسميته بإضاءة مهمة لهذا الصندوق الأسود والتعرف على بعض مظاهر قواه ومسارات التفاعل بينها والتعرف على أليات عملها، وكذلك استشراف المآلات المتعلقة بحركة هذه القوى وأهدافها وإحكام شبكات الفساد والاستبداد المتعلقة بها سواء أشار ذلك إلى قوى سابقة أو قوى لاحقة.

قدمت إذن هذه الثورة معطيات جديدة يجب الوقوف عليها ودراستها بالعمق الكافي والتعرف على آلياتها ومآلاتها إنها الفرصة الكبرى التي يمكن أن تتعرف فيها القوى الثورية الحقيقية على هذا الصندوق الأسود وما يعتمل فيه ذلك أن هذا الصندوق الذي ظل مخفيا فترة طويلة من الزمن بغطاء كثيف من التعويم والتعتيم ؛اضطر لأن يكشف عن بعض أوراقه في سياقات الإعلان عن مصالحه وشبكة تحالفاته، ومن ثم فإن استعادة ثورة 25 يناير ليست إلا ترجمة لسؤال غاية في الأهمية؛ هل يمكننا هذه المرة التفكير مرة أخرى خارج الصندوق؟؛ولكن في سياق نعرف فيه ومنه ما يحدث بالفعل داخل هذا الصندوق الأسود الذي شكل قواعد تمكينه واستمراره.

كل هذا يفرض على تلك القوى الثورية التي مارست احتجاجا بعد هذا الانقلاب الفج في الثالث من يوليو والذي تتوالي نتائجه وآثاره ليؤكد المرة تلو المرة كيف أن الثورة المضادة قد جعلت من هذا الانقلاب أحد أدواته على الثورة الحقيقية في الخامس والعشرين من يناير، كل هذا يفرض بالفعل على هذه القوى في ظل هذه الحالة الاحتجاجية تعاملا جديدا سواء مع هذا الصندوق الأسود أو ذلك الصندوق الذي يجب أن نخرج عليه ونفكر ضمن أفاق أرحب في مواجهة دولة وشبكات العواجيز التي أفسدت الماضي وأممت الحاضر وتحاول أن تصادر المستقبل ،وأن تمكن حقيقة بالفعل الحقيقي المستقبلي حالة احتجاجية تلتحم بقضايا الناس ومعاشهم بحيث تجعل من حاضنتها الشعبية مجال تحصين لحركتها ،وظهير شعبي لا يمكن العمل الثوري الحقيقي إلامن خلاله أو استنادا على قاعدة منه.

قد يأتي الوقت لنتحدث عن ذلك تفصيلا نقدم فيه تلك المسارات والآليات واستشراف هذه المآلات لماذا يعني استعادة ثورة الخامس والعشرين من يناير على نحو إجرائي في إطار استراتيجي واضح ومكين، أن هذا الوطن لابد وأن يكون للجميع وبالجميع وللجميع يحفظ كيان الجماعة الوطنية وتيارها الأساسي فيستعيد ثورة ويواجه ثورة مضادة بما تشكله من دوله عميقة وشبكة تحالفات ومنظومة مصالح ،كل ذلك لابد وأن يكون مجال بناء رؤية جديدة باستراتيجية جديدة في النظر لثورة 25 يناير التي أضاءت بعض من الجنبات المعتمة في الصندوق الأسود معرفة وممارسة وآن الوقت أن يكون لهذه الثورة حركة ومسارا يكافئ في أفقها الثورى مواجهة حقيقية للثورة المضادة في كل أشكالها وتجلياتها حتى يمكن أن نبني مستقبل مصر الجديدة التي نريد.

0 التعليقات:

Post a Comment

 
الحصاد © 2013. All Rights Reserved. Powered by Blogger Template Created by Ezzeldin-Ahmed -