حين ماتت نايسة شاهين فى التاسع من شهر فبراير الماضى بعدما طال انتظارها أمام معبر رفح ولم يسمح لها باجتيازه للعلاج من سرطان الثدى الذى نهش جسمها. فإن أهلها ظلوا يرددون «قدر الله وما شاء فعل». لكنهم لم ينسوا ان إغلاق السلطات المصرية للمعبر منعها من تلقى العلاج الذى ربما أنقذ حياتها وهى بعد لاتزال فى سن الخامسة والخمسين. ولئن كفكف أهلها دموعهم واحتسبوها عند الله، فإن دموع أخريات من الأمهات لاتزال تنهمر حزنا على ثلاثة من أطفالهن يحوم حولهم شبح الموت منذ أسابيع وهم ينتظرون الإذن لهم باجتياز المعبر لتلقى العلاج فى مصر. منذ خمسة وأربعين يوما والمعبر مغلق، والأمهات الثلاث يتطلعن إليه كل صباح بأعين أطفأ الحزن بريقها أملا فى أن يقدر لهن انقاذ أطفالهن من الموت. الأطفال الثلاثة الموجودون فى العناية المركزة بمستشفى الشفاء فى غزة هم: أحمد التباهين (5 سنوات) المصاب بضمور فى الكبد. وجنة حجى مريضة الأورام البالغة من العمر 4 سنوات، والثالثة آمال الخطيب التى ولدت منذ ثلاثة أشهر بمرض مجهول فى الدماغ. وهى الحالات الأشد حرجا من بين 550 مريضا فلسطينيا مدرجة أسماؤهم فى قوائم انتظار وزارة الصحة، وجميعهم أحالهم الأطباء للعلاج خارج القطاع، لأنه لا يوجد لهم علاج ولا دواء فى غزة.
المشهد من هذه الزاوية يبدو عبثيا وغير قابل للتصديق. حيث لا أظن أنه خطر ببال أحد، حتى وان كان من أبالسة البشر، أن يحدث ذلك على أحد أبواب مصر، وبحق الفلسطينيين الذين فرضت عليهم الجغرافيا ان يصدوا عنها التهديدات التى تستهدف جبهتها الشرقية، وان يصبحوا ضحايا ذلك الموقع. دعك من موقع «الشقيقة الكبرى» الذى استقالت مصر منه منذ عقود، ودعك أيضا من الدور المقاوم الذى يقوم به القطاع فى مواجهة الغطرسة الصهيونية، وهو ما ينبغى أن يكون محل حفاوة واحترام، ولكننا نتحدث فى اللحظة الراهنة لا عن واجب قومى ولا حتى عن أمن الأمة، وانما عن اعتبارات إنسانية وعملية بحتة. ذلك انه لا يعقل ان تعمد إسرائيل إلى خنق القطاع من شماله، بينما تحكم مصر الخناق وتشدده من الجنوب. ولا يعقل ان يكون فى مصر مجالس للمرأة والطفولة وهيئات للإغاثة والهلال الأحمر، ثم لا يرفع فيها صوت يدعو إلى رفع الغمة عن أهل القطاع. حيث لا يتوقع أن يتخلى كل هؤلاء عن إنسانيتهم لكى يصبحوا مجرد أذرع وأدوات للمؤسسة الأمنية. كما لا يعقل ان تتحجر قلوب أهل السياسة ومنظمات المجتمع المدنى، خصوصا الحقوقية منها، بحيث لا تحرك فيهم شيئا أمثال تلك الحالات العارضة التى ذكرتها، فى الوقت ذاته فإنه لا يعقل ان يعاقب الفلسطينيون جميعا ــ وأهل القطاع فى المقدمة منهم ــ بسبب توتر العلاقة بين السلطة فى مصر وبين حركة حماس، بسبب الصراع الداخلى مع الإخوان فى مصر.
أدرى أن الملف السياسى بات معقدا وتتعدد فى صدده القراءات والتأويلات. لكننى لا أجد أى مسوغ لإغلاق الملف الإنسانى الذى يتضمن ثلاثة عناوين أساسية هى: حملة تجويع القطاع ــ علاج المرضى ــ رعاية مصالح الدارسين والعاملين فى الخارج من أبناء القطاع. ربما كان موضوع المرضى يحتل أولوية قصوى لأسباب أحسبها مفهومة، إلا أننا لا نستطيع أن نتجاهل مصالح الألوف ومصائرهم التى أوقفها أو دمرها إغلاق المعبر. وفى حدود علمى فإن عدد المسجلين لدى وزارة داخلية القطاع من أصحاب المصالح الذين يريدون اجتياز المعبر وصل إلى 7000 مواطن. وقد أوقفت الوزارة تسجيل الأسماء لأن الاستجابة لرغبات الذين تم تسجيلهم تستغرق ما بين 6 و7 أشهر.
العبث واللامعقول يذهب إلى أبعد من ناحية لأن معبر رفح يعد معبرا دوليا لا يجوز إغلاقه حتى فى ظل الحروب، لكن فلسطينيى غزة استثنوا من ذلك، رغم ان إغلاقه بالصورة الراهنة يعد جريمة حرب، من ناحية ثانية لأنه فى حين يغلق معبر رفح فى وجوه الفلسطينيين بتلك الطريقة الفظة، فإن معبر طابا فى سيناء مفتوح طول الوقت أمام الإسرائيليين ولم يغلق يوما واحدا. والأولوف يريدون اجتياز معبر رفح للضرورات الإنسانية والحياتية، فى حين معبر طابا مفتوح لاستمتاع ورفاهية وعطلات السياح الإسرائيليين، ولا أريد أن أقارن بين كراهية الإسرائيليين لفلسطينيى القطاع وبين حسابات السياسة المصرية التى اختارت معاقبتهم وتشديد الخناق عليهم، لكن المقابلة تعيد إلى أذهاننا موقف العدو العاقل الذى يجيد الحساب والصديق الغاضب الذى تختل بين يديه معايير الحساب.
المدهش والمخزى ان الجامعة العربية التى قرر مجلسها يوما ما كسر حسار غزة، وما برح يدعو إسرائيل بين الحين والآخر لرفع حصارها للقطاع التزمت الصمت إزاء موقف السلطات المصرية من إغلاق معبر رفح، ومن ثم تحول القطاع إلى سجن كبير لنحو مليونى فلسطينى. ويضاعف من الدهشة والخزى ان التعاطف الدولى أفضل بكثير من تعاطف الأنظمة العربية معهم. تشهد بذلك وفود التضامن التى ما برحت تعبر عن ذلك التعاطف بين الحين والآخر. وأحدثها ذلك الوفد النسائى الغربى الذى قدم إلى القاهرة للاحتفال باليوم العالمى للمرأة مع نساء غزة الصامدات (8 مارس)، ثم منع الوفد من مغادرة مطار القاهرة والوصول إلى غزة.
لئن قلت ان كل ذلك مما لا يخطر على البال ولا يكاد يصدقه العقل، فإننى أزعم أن الأولين من أهل السلف لو وقعوا عليه فى زمانهم لاعتبروه من علامات الساعة الصغرى التى فى ظلها تتغير النواميس وتنقلب الأمور إلى ضدها، بحيث يصبح الخلل والخطل قاعدة والصواب شذوذا واستثناء.
0 التعليقات:
Post a Comment