الكتابة ليست رص الكلام على السطور، طرح الخطاب في المجال العام أخطر من ذلك بكثير، وأمضى أثرًا في وجدان المتلقي، وقدرة على تشكيل اختياراته الشخصية، والاجتماعية.. الكتابة وطن العقول، تسكنه أو تهاجر إلى غير رجعة.
يقول لي أحد أساتذتي في هذا الفن: فلان الذي كفروه وفرق قضاؤنا الشامخ بينه وبين زوجته، لم يكن علميًا في طرحه، ولم يكن صادقًا في ادعاءاته بالإيمان لينجو، أعرفه على الورق، وأعرفه شخصيًا، كنت أنوي الكتابة ضده وتفنيد آرائه قبل أن يحاكموه، فلما وجدته في القفص يدفع ثمن آراء لم يفرضها على أحد، بادرت بالدفاع عن حقه في التعبير وساندته للنهاية، ورفضت تكفيره اجتماعيًا، وهو عندي كافر عقديًا، ورفضت فصله من الجامعة، وهو عندي من الأساتذة غير الأكفاء، وحسبني الناس راضيًا عنه أو عما يكتب، لم أهتم كثيرًا لهذا، أما دراستي عن أفكاره فقد طرحتها بعد ذلك بكثير، فحين يكون الرجل في قفص الاتهام تحت مطرقة سلطة غاشمة تنافق الوجدان الشعبي بالإجهاز عليه، فلا يعني الاشتباك النقدي معه سوى التبرير لمزيد من القمع والاضطهاد السياسي والاجتماعي، وأنا لا أرضى لما أراه حقًا أن يكون سبيلاً لما أراه باطلاً.
الكاتب المحترف لا يدون خواطره الشخصية في كراسة غلافها أحمر ومرسوم عليه دبدوب وقلب يشقه سهم، الكاتب المحترف يعرف للخطاب خطورته، ويقدر زمنه ومكانه، ويدرك أي سياق أنتجه كما يراقب جادًا أي سياق سيتحرك فيه.
"ضد الإخوان" ..
حسنًا.. "ضد الإخوان" الآن لا تساوي "ضد الإخوان" وهم في السلطة، الفارق بينهما مثل الفارق بين إطلاق النار على العدو في ميدان المعركة، وإطلاقه على المتظاهرين في ميدان التحرير.
خاصم أفكار الإخوان كما تشاء، الإنسان الطبيعي يفعل ذلك، لكن لا تسمح لخطابك أن يقف مشجعًا أمام القتل العشوائي واغتصاب الفتيات والأطفال والرجال، وخلع أظافر من يشتبهون أن أحد أقاربه إخوان، لا تسمح لهذا الخصام أن يتحول إلى هوس: اقتلوهم.. اسحلوهم.. علقوهم على جذوع النخل.. لا يشترط أن تقول هذا بوضوح.. ثمة خطابات أخرى تؤدي الغرض.
لا أحاول هنا الرد على صديقي العزيز "أحمد سمير"، لكنني أضع مقاله في مرآة آخر، لعله يقرأه، فما زلت مقتنعًا أن ما نشر في الشروق أمس تحت عنوان: عزيزي عضو الإخوان.. انتحر وحدك.. نؤمن أن الانتحار حرام شرعًا"، هو كلام لم يقرأه صاحبه.. ولعله يكتب عنه ردًا وافيًا إذا قرأه!
أعتذر مقدمًا عن التورط في مناقشات ساذجة وعبثية من نوعية: أنت تدافع عن الإخوان، إخوان بشرطة، إخوان بس بتحترمهم.. الناشطون العملاء.. قولوا ما شئتم.. وسأكتب ما أشاء.
لا أعلم كيف يمكننا أن نضع تحت لافتة الإخوان – هنا والآن - شيئًا بعينه نعرفه بالإضافة إليهم.. خطاب الإخوان، رأي الإخوان، فرحة الإخوان، شماتة الإخوان!!..
أعضاء الجماعة الآن في السجون وفي المعتقلات وفي المظاهرات وفي أقسام البوليس، وفي المصحات النفسية، وفي الفضائيات، وفي مواقع التواصل، كل منهم يتبنى خطابًا يتناسب مع موقفه، الجماعة مهلهلة، لا رأس لها ولا قدمين، شباب يتحدثون عن الفرم، وشيب يتحدثون عن المصالحة، وآخرون في الشوارع، وأخريات في عيادات أمراض النساء لإجهاض أطفال الاغتصاب، البعض يجلد ذاته ويعترف بأخطائه، والبعض يجلدونه بمعرفتهم، البعض يتمنى أن ينفجر في وجه الجميع، والبعض يسافر ويترك البلاد إلى غير رجعة، البعض ينشق ويكون "إخوان بلا عنف" ويدعم حمدين، والبعض يختل نفسيًا وعصبيًا ويهذي على فيس بوك وتويتر كما يليق بمن خسر كل شيء، البعض يذهب يمينًا، والبعض يذهب يسارًا، من أين لنا بتوحيد كل هؤلاء الآن تحت رؤية واحدة: الإخوان يرون كذا، يتجاوز الأمر العبث إلى شيء آخر لا أجد له اسمًا.. سمّه ما شئت.
أيضًا لا أعلم كيف يمكننا أن نضع تيارًا بأكمله يضم بين صفوفه تنوعات لا حصر لها في سلة واحدة، لم أر أحد يفعلها سوى "عبرحيم"، وحده يقول كما علمه الضابط المسئول عنه، إن بن لادن في أقصى اليمين = أبو الفتوح في أقصى اليسار، لا فرق، ولعله محق، فهما عند أسياده سواء، وبالتالي فهما عنده سواء.. لا لوم عليه.. ولكن ماذا عنا؟
كيف يمكننا ببساطة أن نقول إن الإرهاب "إسلامي" وهو مسئولية "تياركم"، تيار من؟ وإن خطف الجنود مسئولية "تياركم"، وما نحن فيه كله بسبب "تياركم".. يستيقظ الناس على أصوات انفجارات لا يعرفون مصدرها.. بسيطة.. إنه تياركم.. حتى تراجع مستوى "ميسي" يمكننا نسبته إلى إرهاب الإسلامين الأشرار.
سهل أن تتهم بالجملة، صعب أن تثبت بالقطاعي ..
لا يوجد في المشهد الآن إلا ما يبعث على التعاطف والدعم والمساندة، لكننا نكره الإخوان، ونكره أن نقف منهم موقف الدعم، ونكره مجرد تخيل أنهم يفعلون ما يستحق أي علامة إيجابية، بسيطة.. ممارسة اجترار الخطايا من جوف الأحداث لن يضر:
- الإخوان الآن يعذبون.. (فاكرين رابعة)؟
- الإخوان يقتلون عاطل في باطل.. (فاكرين فلان لما قال في رابعة)؟..
- النساء يخرجن من أقسام البوليس حوامل.. (فاكرين خطاب رابعة)؟..
- الأطفال يتعرضون للاغتصاب وينتهون مدى الحياة كبشر طبيعيين.. (فاكرين الرجل اللي كان على منصة رابعة)؟..
- الإخوان يتلقون أحكامًا بالإعدام الجماعي تتجاوز الأرقام القياسية في العالم كله.. (فاكرين الرجل اللي كان ماشي جنب مذبحة رابعة وقال كذا وعاد كذا، وأنتم رضيتم وسمحتم وفرحتم)؟..
هنا تتحول المذبحة إلى هامش، وتتحول فرحة أحد المارة بأحد المارة إلى متن يحاسب عليه الجميع !
لا تسألني كيف استطاع الكاتب أن يرصد فرحة أحدهم بخطأ ما.. فقد استطاع أن يعمم هذه الفرحة على جماعة قوامها عشرات الآلاف ومن يفعل الثانية لا يعجز عن الأولى.. ولكل مجتهد نصيب.
المجموعات الإرهابية التي كانت على أسطح العمارات في رابعة "بائسة".. هكذا يصفها الكاتب.. والمسلح الوحيد هزيل.. والجماعة مذنبة لأنها سمحت لهؤلاء بالتواجد أثناء الفض الذي كانوا فيه يقتلون ويحرقون ..
الجماعة سمحت لمن؟ للبائس والهزيل.. متى؟ ساعة الفض، أين؟ بين النار والحريق والجثث.. هنا ينتحر المنطق..
ربما لأنه لا يؤمن بأن الانتحار حرام شرعًا.
***
قل ما تشاء واتهم من تشاء بما تشاء، والدليل تويتة لأي حد، لعدد اللايكات، لمرة واحد صاحبي قال لي.. لمرة واحد "مغير" كان ماشي وقال.. لأي حاجة.. حين تسبح مع التيار فأنت لا تحتاج إلى دليل.. اطمئن.. الجميع معك.. حتى "القضاء".. والقدر.
يمكنك الآن أن تتحدث باسم الناس، أنت أمام الميكروفون، وظف الوقائع في تصدير الوهم، وامنح الكراهية بعض البريق تصفو لك حججًا وبراهين قاطعة.
***
"السيسي أكثر رجل شعبية في الوطن لأنه يقتل الإخوان" ..
السيسي صنيعة إعلام كاذب، وشاشات ركبها المخبرون وتسلط عليها محاسيب "مبارك" و"أُجراء" رجال أعماله.. صناعة الرضا الكاذب علم توشك أصوله أن تصبح كلاسيكية ..
لكن لا بأس.. ضع السيسي والكذب والإخوان في جملة واحدة واطرحها كالنرد على رقعة الطاولة، يأتي "الشيش بيش" بالسيسي وهو الأكثر شعبية في الوطن لأنه يقتل الإخوان.. وده قمة الإعجاز الـ"أي حاجة في رغيف".
هناك إرهاب.. وهراء أن العنف من تدبير المخابرات لا يقنع سوى إخوانك في لقاء الأسرة..
وماذا عن آخرين ليسوا إخوانه في الأسرة ما زالوا ينتظرون إثبات العكس، القبض على إخواني واحد متلبس بجريمته، تسجيلات الإخوان وهم يدبرون جرائمهم الإرهابية؟ أم أن وزارة الداخلية للصوتيات والمرئيات لا تقدم سوى مكالمات الثوار وهم يرتكبون جريمة المزاح؟!
صدّر كل الخطابات واحصل على الفارق مجانًا من كراهية السلطة للإخوان، وتمتع بأكبر خصم من رصيد مستقبل وطن نشارك بكتاباتنا في تأجيج صراعاته الطائفية.. وكله بالحب.
يخبرنا الكاتب أن الإخوان مذبذبون لا هم مسلحون ولا هم سلميون، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.. ويخبرنا قبلها بسطور أنهم إرهابيون مهووسون منحطون بالإرهاب ..
اختر ما يناسبك ..
المقتول من الإخوان إرهابي يدفع دمه ثمنًا لشعبية السيسي الطاغية.. المقتول من الشرطة يصلي ويقرأ القرآن 4 مرات في الشهر، بمعدل 4 أجزاء يوميًا ويطعم قطط الشوارع ..
الحرق مقابل الخطاب، والدم مقابل التظاهر.. والكراهية أبدًا.
"منذ اللحظة الأولى، قدّم التنظيم نفسه للشعب على أنهم كائنات فضائية جاءت تحمل لنا الخير.
شباب الإخوان يتحدثون عن الانتقام من انقلابيي 30 يونيو، وهو مصطلح يدخل في إطاره ملايين البشر الذين شاركوا في 30 يونيو.
الجنون بلغ الذروة.. تنظيم يريد معاقبة شعب لأنه تظاهر ضده، بينما يصرخ مرسي بهيستريا في الخلفية "دونها الرقاب.. دونها الرقاب".
ملايين البشر شاركت في 30/ 6، وملايين البشر انتخبت الكائنات الفضائية أيضًا.. وكما خُدعوا في الثانية خدعوا في الأولى.. كل الناس تخطئ، وكلهم ينخدعون.. حتى الملايين.. حتى الأنبياء ينخدعون أحيانًا ..
الإخوان واضحون.. أنت لست تابعًا للتنظيم، إذن أنت عدو للإسلام وللمشروع الإسلامي".
اقرأ مقالك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا:
أنت تابع للإخوان إذن أنت إرهابي.. منحط.. مهووس.. تكره الشعب.. جنونك بلغ الذروة.. لن تفهم يومًا.. وافقت على الرجل الهزيل.. والمجموعات البائسة.. نحن ضدكم..
الإخوان ليسوا وحدهم في هذا العالم، ثمة شركاء في اللا وطن.
"قريبًا سيسب أولادنا الغبي ويقولون له يا إخواني"..
ثمة أولاد آخرون سيحاول آباؤهم حمايتهم من التورط في ميراث الغل والكراهية.. سيربونهم على قيم الاختلاف والمواطنة.. سيحلمون لهم بدولة محترمة ومجتمع متنوع لكنه غير متصارع.. الليبرالية فيه ليست دليلاً على الانحلال، والشيوعية فيه ليست صنوًا للكفر، والإخوان فيه ليسوا هدفًا للاتهامات المجانية والتنابز بالألقاب ..
ومن يدري ربما ينتصر أولاد الحلم على أولاد الكراهية وينجو الجميع.
شباب الإخوان قد يكملون انتحار قياداتهم..
بعضنا بدوره يحاول إكمال انتحار إبراهيم عيسى ..
معلومة أخيرة قد تهمك:
يموت بغيظه حيًا من يفقد إنصافه وبصيرته ..وإنسانيته..
للتواصل مع الكاتب:
على تويتر:
https://twitter.com/Tolba_Radwan
على فيس بوك:
https://www.facebook.com/mohamed.t.radwan
0 التعليقات:
Post a Comment