منذ نهاية الحرب الباردة، كان ثمة افتراض أن الحرب التقليدية بين البُلدان المتقدمة إلى حد معقول باتت جزءًا من الماضي. وخلال تسعينيات القرن الفائت، كانت التوقعات تشير إلى أن الغرض الأساسي من الجيوش لن يكون خوض الحروب بل إجراء عمليات؛ كحفظ السلام والإغاثة في حالات الكوارث وتغيير الأنظمة القمعية. وبعد 11 سبتمبر، بدأ كثيرون يتحدثون عن الحرب غير المتماثلة و”الحرب الطويلة”، وهو الطراز الذي ستشارك به الولايات المتحدة في مناطق واسعة من العالم الإسلامي لفترة طويلة جدا. أما صراعات الأنداد فعفا عليها الزمن.
لكن ثمة فكرة راديكالية عميقة متأصلة في هذا الخط من التفكير؛ فالحروب بين الدول أو قوى الأسر الحاكمة، والتي كانت حالةً مستمرةً في أوروبا وبقية العالم، لم تكن أقل عنفًا. فلكل قرن حروبه النظامية التي شارك فيها النظام الدولي بأكمله (الذي تهيمن عليه أوروبا بصورة متزايدة منذ القرن السادس عشر): ففي القرن العشرين كانت هناك حربين عالميتين، وفي القرن التاسع عشر كانت الحرب النابوليونية، وفي القرن الثامن عشر كانت حرب السنوات السبع، وفي القرن السابع عشر كانت حرب الثلاثين عامًا.
والذين جادلوا بأن سياسة الدفاع الأمريكية يجب أن تحول تركيزها بعيدًا عن حرب الأنداد والصراع النظامي كانوا في الواقع يستندون إلى أن العالم دخل حقبة جديدة، وما كان شائعًا في السابق أصبح نادر الوجود اليوم. وكان أصحاب هذه الحجة نادرًا ما يعترفون بطبيعتها الراديكالية، وكانت سياسة الدفاع الأمريكية المتطورة التي أعقبت هذا المنطق نادرًا ما يُنظَر إليها باعتبارها غير ملائمة. لكن إذا كانت الولايات المتحدة على وشك المشاركة بشكل رئيس في عمليات مكافحة الإرهاب في العالم الإسلامي طيلة السنوات الخمسين المقبلة، فمن الواضح أننا بحاجة إلى جيشٍ مختلف.
هذه الحجة كانت تستند إلى سببين:
(1) هاجس المخططين العسكريين الدائم بالحرب التي يخوضونها، ورؤية المهمة العاجلة كمهمة دائمة. فخلال الحرب الباردة كان من المستحيل لأحد أن يتصور كيف ستنتهي. وخلال الحرب العالمية الأولى كان من الواضح أن الحرب الثابتة المهيمنة على الدفاع هي النموذج الدائم. ومن ثم لابد من تعديل الاعتقاد بأن: أن الجنرالات يخوضون الحرب الأخيرة، ليصبح: الجنرالات يؤمنون دومًا بأن الحرب التي يخوضونها هي الحرب الدائمة. فالحرب، في النهاية، تتويج لحياتهم المهنية.
(2) السبب الثاني، هو عدم وجود دولة قومية بإمكانها تحدي الولايات المتحدة عسكريًا. فبعد انتهاء الحرب الباردة، كانت الولايات المتحدة في موقف قوي متفرد، وبقيت هكذا، لكن بمرور الوقت سوف تزيد الدول الأخرى من قوتها وتشكل تحالفات وائتلافات وتتحدى أمريكا. ومهما كانت القوة الرائدة لا تمثل خطرًا، ستشعر الدول الأخرى حيالها بالخطر. وفكرة أن الدول القومية لن تتحدى الولايات المتحدة كانت تبدو معقولة خلال السنوات العشرين الماضية، لكن الحقيقة تقول أن هذه الدول سوف تسعى لتحقيق مصالحها التي تعارض المصالح الأمريكية، ما يشكل تحديًا من طراز الأنداد.. يحتمل أن تكون الولايات المتحدة تمتلك قوة ساحقة، لكن هذا لا يجعلها لا تُقهَر.
الحرب النظامية مقابل الحرب غير المتماثلة
يجب أيضًا تذكُّر أن الحرب غير المتماثلة والعمليات العسكرية ما دون الحرب كانت متواجدة دوما ما بين وأثناء حروب الأنداد والحروب النظامية. فالبريطانيون خاضوا حربًا غير متماثلة مع كل من أيرلندا وأمريكا الشمالية في سياق حرب الأنداد مع فرنسا. وخاضت ألمانيا حربًا غير متماثلة في يوغوسلافيا بموازاة خوضها حربًا نظامية ما بين عامَي 1939 و1945. وخاضت الولايات المتحدة حروبا غير متماثلة في الفلبين ونيكاراجوا وهايتي وأماكن أخرى ما بين عامَي 1900 و1954.
فالحروب غير المتماثلة والعمليات العسكرية ما دون الحرب أكثر شيوعًا من حروب الأنداد والحروب النظامية. لكن لأن هزيمة الأمريكيين لبريطانيا لم تدمر القوة البريطانية، فإن نتائج الحروب غير المتماثلة (وهي ليست نمطًا جديدًا من الحرب، بل أحد أبعادها الدائمة) نادرًا ما تحدد القوة الوطنية، والأكثر ندرة هو تحديدها للنظام الدولي.
وبالنسبة لبريطانيا، كانت نتائج الحروب النابوليونية أكثر أهمية من نتيجة الثورة الأمريكية. وبالنسبة للولايات المتحدة، كانت الحرب العالمية الثانية أكثر أهمية من تدخلها في هايتي. وهناك الكثير من الحروب غير المتماثلة الأخرى، لكن الهزيمة فيها لا تغير القوة الوطنية. على عكس الحرب النظامية، التي تؤدي خسارتها إلى نتائج كارثية.
ويمكن تشكيل القوة العسكرية لخوض حروب متكررة أو اشتباكات أقل أهمية، أو حروب نادرة لكنها حاسمة.. والأمثل؛ أن تكون قادرة على القيام بالأمرين. لكن في التخطيط العسكري، ليست كل الحروب بالأهمية ذاتها. فالحرب التي تحدد القوة والنظام الدولي يمكن أن تؤدي إلى نتائج كارثية لا رجعة فيها. صحيحٌ أن الحروب غير المتماثلة يمكن أن تسبب مشاكل وتوقع أضرارًا، لكن هذه مهمة أدنى. ويجب على القادة العسكريين ومسؤولي الدفاع، المهووسين باللحظة، أن يضعوا في اعتبارهم أن الحرب التي يخوضونها حاليا قد لا يعلَق منها في الذاكرة إلا القليل، وأن السلام الذي هو حاليا في متناول اليد نادرًا ما يدوم، وأن الاعتقاد بأن أي نوع من الحروب عفا عليه الزمن من المرجح أن يكون خاطئا. هذا الدرس جلبته أوكرانيا إلى الوطن: لن تكون هناك حرب بين أمريكا وروسيا بسبب أوكرانيا.. ليس لدى الولايات المتحدة مصالح هناك تبرر نشوب حرب، وكلا البلدان ليسا في موقف عسكري يتيح خوض حرب.. الأمريكيون ليسوا منتشرين للحرب، والروس ليسوا على استعداد لمحاربة الولايات المتحدة.
لكن الأحداث في أوكرانيا تشير إلى بعض الحقائق:
أولا؛ أن قوة البلاد تتغير، والروس زادوا من قدراتهم العسكرية بشكل كبير منذ التسعينيات.
ثانيا؛ المصالح المتباينة بين البلدين، والتي بدا أنها اختفت في التسعينيات، عاودت الظهور مرة أخرى.
ثالثا؛ هذه الحلقة ستدفع كلا الطرفين لإعادة النظر في الاستراتيجية والقدرات العسكرية، وأزمات المستقبل قد تؤدي إلى حرب تقليدية، برغم وجود الأسلحة النووية.
وهكذا تذكرنا أوكرانيا بأن صراع الأنداد ليس مستحيلًا، وأن سياسة الاستراتيجية والدفاع التي بنيت على هذا الافتراض لا تستند، في الواقع، إلى أرضية صلبة.
ويجب أن تقوم الاستراتيجية الوطنية الأمريكية على أساس السيطرة على البحر؛ فالمحيطات تحمي الولايات المتحدة من كل شيء، ما عدا الإرهاب والصواريخ النووية. والتحدي الأكبر الذي يواجه سيطرة الولايات المتحدة على البحر هي: الأساطيل المعادية. وأفضل طريقة لهزيمتها هي منع بنائها من الأساس. وأفضل طريقة للقيام بذلك هو الحفاظ على توازن القوى في أوراسيا. والطريق الأمثل لذلك هو ضمان استمرار التوترات داخل أوراسيا بحيث تستنزف الموارد في الدفاع ضد تهديدات البر بدلًا من بناء الأساطيل في البحر. وبالنظر إلى التوترات الكامنة في أوراسيا، يتضح أن الولايات المتحدة ليست بحاجة إلى القيام بأي شيء في معظم الحالات. وفي بعض الحالات يجب أن ترسل مساعدات اقتصادية أو عسكرية إلى جانب أو الجانبين. وفي حالات أخرى، تكتفي بالنصح.
استراتيجية الولايات المتحدة في أوراسيا
الهدف الرئيسي هنا هو تجنب ظهور قوة إقليمية مهيمنة، تصبح آمنة تماما ضد التهديدات البرية، وتتمتع بقوة اقتصادية لتحدي الولايات المتحدة في البحر. وبالعودة إلى استراتيجية الولايات المتحدة في الحرب العالمية الأولى يتضح أنها كانت ترفض الانخراط حتى ظهر، مع تنازل القيصر وزيادة العدوان الألماني في البحر، أن البريطانيين والفرنسيين قد يهزموا، أو أن الممرات البحرية قد تُغلَق.. عند هذه النقطة، تدخلت الولايات المتحدة لمنع الهيمنة الألمانية.
وفي الحرب العالمية الثانية، بقيت الولايات المتحدة خارج الحرب إلى ما بعد انهيار الفرنسيين، وظهر أن الاتحاد السوفييتي قد ينهار- أي حتى برزت ضرورة القيام بشيء. حتى حينها، لم يوافق الكونجرس على خطة روزفلت للتدخل عسكريا في أوروبا القارية إلا بعدما أعلن هتلر الحرب على الولايات المتحدة، وشنت اليابان هجومها على ميناء اللؤلؤ (بيرل هاربُر). وعلى الرغم من العمليات في البحر الأبيض المتوسط، لم توجه الولايات المتحدة صفعتها الرئيسية حتى عام 1944 في نورماندي، بعدما ضعف الجيش الألماني بشدة.
ولتنجح هذه الاستراتيجية، التي ورثتها الولايات المتحدة من بريطانيا، تحتاج أمريكا إلى بنية تحالفية فعالة وذات صلة. فاستراتيجية ميزان القوى تفترض وجود حلفاء أساسيين لديهم مصلحة في التحالف مع الولايات المتحدة ضد الخصوم الإقليميين. وحين أقول فعالة، فأنا أعني حلفاء قادرين على الدفاع عن أنفسهم إلى مدى كبير. فالتحالف مع العجزة لا يثمر كثيرًا. وأعني بذات الصلة أنهم متموضعون جغرافيا للتعامل، بشكل خاص، مع الهيمنة الخطيرة.
وإذا افترضنا أن الروس يمثلون قوة مهيمنة خطيرة، فإن الحلفاء ذوي الصلة هم أولئك المحيطين بروسيا. على سبيل المثال، لا تضيف البرتغال أو إيطاليا وزنًا كبيرًا إلى المعادلة. أما بخصوص الفعالية، فيجب أن يكون الحلفاء على استعداد للوفاء بالالتزامات الرئيسية حيال دفاعهم الوطني الخاص. والعلاقة الأمريكية في جميع التحالفات تكمن في أن نتائج الصراعات يجب أن تهم الحليف أكثر من الولايات المتحدة.
النقطة الهامة هنا هي أن حلف شمال الأطلسي، الذي كان ذو قيمة كبيرة خلال الحرب الباردة، قد لا يكون أداة ذات صلة أو فعالة في مواجهة جديدة مع الروس. فمعظم الأعضاء ليسوا متموضعين جغرافيا لتقديم المساعدة، وكثيرون لا يمتلكون الفعالية العسكرية، وهم لا يستطيعون تحقيق التوازن ضد الروس. و بما أن هدف استراتيجية ميزان القوى الفعالة تقوم على تجنب الحرب بموازاة احتواء القوة الصاعدة، فإن غياب الردع الفعال يمثل نقطة ذات أهمية كبيرة.
ليس من المؤكد بأي وسيلة أن روسيا هي التهديد الرئيس للقوة الأمريكية. وبينما يشير كثيرون إلى الصين، أرى أن قدرة الصين على تشكل تهديد بحري على الولايات المتحدة، في الوقت الحاضر، تقتصر على جغرافية بحار جنوب وشرق الصين؛ حيث العديد من نقاط الاختناق التي يمكن إغلاقها. علاوة على ذلك، يصعب تخيل توازن القوى العسكرية البرية. لكن المبدأ الأساسي الذي تناولته لا يزال قائمًا؛ فدول مثل كوريا الجنوبية واليابان، لها مصلحة أكثر إلحاحًا في الصين من الولايات المتحدة، تدعمها الولايات المتحدة لاحتواء الصين.
في هذه الحالات المحتملة وغيرها، تبقى المشكلة التي تواجه الولايات المتحدة في نهاية المطاف؛ أن انخراطها في أوراسيا يحدث عن بُعد. ومن ثمَّ يجب أن تمتلك الولايات المتحدة مضاعِفات للقوة. ففي كثير من الحالات، لا تختار أمريكا نقطة التدخل، لكن العدو المحتمل هو الذي يخلق الظروف التي تحتم التدخل. وبالتالي، من غير المعروف للمخططين مكان خوض الحرب، ولا نوع القوة المواجِهة. الشيء الوحيد المؤكد هو أن المكان سيكون بعيدًا، وسوف يستغرق بناء القوة وقتًا طويلًا. على سبيل المثال، أثناء عاصفة الصحراء، استغرق الأمر ستة أشهر لشن الهجوم.
إن الاستراتيجية الأمريكية بحاجة إلى الجمع بين امتلاك القوة الساحقة، وإمكانية استخدامها دون تأخير كبير. على سبيل المثال في أوكرانيا، إذا اختارت الولايات المتحدة محاولة الدفاع عن شرق أوكرانيا من الهجوم الروسي، كان من المستحيل نشر هذه القوة قبل استيلاء الروس على المنطقة. ومن ثمَّ فإن أي هجوم ضد الروس في أوكرانيا كان مستحيلًا. وهكذا تثير أوكرانيا المشكلة الاستراتيجية التي تواجه الولايات المتحدة.
مستقبل سياسة الدفاع الامريكية
سوف تواجه الولايات المتحدة صراعًا من الطراز النظامي أو الأنداد في أوراسيا. وكلما بدأت الولايات المتحدة بقوة حاسمة، كلما انخفضت التكلفة التي تتكبدها. واستراتيجية خوض الحرب التقليدية الحالية لا تختلف كثيرًا عن نظيرتها إبان الحرب العالمية الثانية: حيث تعتمد بشكل كبير على المعدات والبترول لتشغيل تلك المعدات. ويمكن أن يستغرق نشر مثل هذه القوة عدة أشهر. وهذا يمكن أن يجبر الولايات المتحدة على اتخاذ وضع هجومي أكثر كلفة وخطورة بكثير من الوضعية الدفاعية، كما فعلت في الحرب العالمية الثانية. وبالتالي، من الضروري تقليل وقت الانتشار إلى حد كبير، وكذلك تخفيض حجم القوة، في مقابل زيادة مستوى الفتك وقابلية التنقل وإمكانية البقاء على قيد الحياة.
ويترتب على ذلك أيضًا خفض وتيرة العمليات؛ فالولايات المتحدة تخوض حروبا مستمرة منذ العام 2001، لأسباب غير مفهومة، لكن في استراتيجية ميزان القوى تصبح الحرب هي الاستثناء وليس القاعدة. حيث يُنظَر إلى القوة التي يمكن نشرها باعتبارها ساحقة، وبالتالي لا حاجة لنشرها، ويكون حلفاء الولايات المتحدة لديهم دوافع كافية وقادرين على الدفاع عن أنفسهم. هذه الحقيقة تردع الهجوم عبر الهيمنة الإقليمية. كما أن هناك حاجة إلى وجود طبقات من الخيارات بين التهديد والحرب.
ومن ثمَّ يجب أن تُبنَى سياسة الدفاع على ثلاثة أمور:
(1) أن الولايات المتحدة لا تعرف أين ستخوض القتال.
(2) أن الولايات المتحدة يجب ألا تستخدم الحرب إلا لِمامًا.
(3) أن الولايات المتحدة يجب أن تمتلك تكنولوجيا كافية للتعويض عن حقيقة أن الأميركيين سيكونون في مواجهة أعداد تفوقهم في أوراسيا.
هذه القوة يجب أن تتغلب على ذلك، وأن تصل إلى هناك بسرعة.
صحيح أن نطاقات التكنولوجيات الجديدة، من صواريخ تفوق سرعتها سرعة الصوت، إلى قوات مشاة معززة إلكترونيًا وميكانيكيًا، متوفرة. لكن طريقة العقلية التي تؤمن بأن صراع الأنداد أصبح جزءًا من الماضي، وأن عمليات الوحدة الصغيرة في الشرق الأوسط هي السمات الدائمة للحرب، تقف حجر عثرة أمام التفكير في هذه التكنولوجيات الجديدة.
من الضروري إعادة النظر في الاستراتيجية الأمريكية، في إطار الاحتمالية الدائمة لنشوب حرب تقليدية ضد أعداء يقاتلون على أرضهم الخاصة، بموازاة فهم أن استنفاد القوة في الحروب غير المتماثلة لا يمكن أن يستمر. صحيحٌ أن خسارة الحرب غير المتماثلة أمر مؤسف، لكنه مقبول. بيدَ أن خسارة الحرب النظامية يمكن أن يكون كارثيًا. أما الخيار الأفضل فهو: انتفاء الحاجة إلى خوض الحرب أصلا.
0 التعليقات:
Post a Comment