كان الذين يطالبون بإنهاء حكم العسكر يزأرون في الميادين "مصر دولة مش معسكر"
دقق في تفاصيل المشهد الآن ستكتشف أنها، لا هي دولة، ولا هي معسكر، إذ تكاد تتلاشى معالم الدولة، وتشيب ملامح المعسكر في الوقت ذاته.
مصر تغيب عنها مقومات الدولة على نحو فادح، فالدولة في التعريف السياسي البسيط تبدأ بالعقد الاجتماعي، الذي ينقل الأفراد من حياة الغابة، وحالة حرب الكل ضد الكل، إلى حالة الالتزام بما يضمن البقاء للجميع، لذا ظهر في القرن السابع عشر مفهوم "الدولة التنين" دليلا على نهوضها ككائن قوي رادع لرغبات الأفراد الفردية وأطماعهم الشخصية على حساب الغير.
ومن فكرة العقد الاجتماعي تولدت القوانين، التي تنظم العلاقة بين الدولة والأفراد من جانب، وبين الأفراد بعضهم بعضاً من جانب آخر، ثم تمارس هذه القوانين فعلها في حياة الأفراد، محمية بقوة ذلك التنين/الدولة الذي يكبح الاندفاعات الذاتية المدمرة للأشخاص والمجموعات الصغيرة.
ولو قارنت بين ما هو معرف نظريا، وبين ما يدور على أرض مصر الآن، ستجد أن القوانين غائبة أو مغيبة، وأن المعيار الحاكم لإدارة الحياة داخل حدودها هو القوة وليس الحق، وأن القيمة السائدة هي البطش وليس العدل، وبذلك تبتعد مصر تماما عن مفهوم الدولة وترتد إلى حالة ما قبل اختراع القوانين.
خذ عندك مثلاً قصة طالب هندسة الإسكندرية عمر شريف، الذي سقط صريعا في المظاهرات المنددة بخنق الحياة الجامعية وتجريد الطلاب من حقوقهم السياسية والإنسانية، فقد اعتبرت الدولة ممثلة في وزارة الداخلية أن قتله حلال، بل وكادت البيانات والتصريحات الصادرة عن قيادات الأمن تصل بجريمة قتله إلى درجة الإنجاز الوطني العظيم، فراحت ألسنة الأمنيين تلوك كلاما لا يمكن أن تسمعه في دولة محترمة، مفاده أن الطالب ينتمي إلى جماعة "الإخوان" وبعضهم ذهب إلى أبعد من ذلك حين ادعى ببلاهة سمجة أنه عضو في كتائب عز الدين القسام التابعة لحركة حماس.. وبصرف النظر عن أن هذا الكلام يصلح فقط كنص لعمل مبتذل على خشبات المسرح التجاري الرخيص، فإنه يكشف دون مواربة أن قيادات الدولة المصرية لا تحترم القوانين، وربما لا تعترف بها من الأساس، أو أن لديها مفهومها الخاص للقوانين باعتبارها أدوات للتسلط والتحكم في حياة الأفراد، وليست وسائل لتنظيم الحياة وإدارتها بما يجعلها أكثر آدمية.
وتأتي حالة أخرى كاشفة، بتوقيف الناشطة السياسية أسماء محفوظ في مطار القاهرة ومنعها من السفر، دون حكم يقضي بإدراجها على قوائم المنع، فتسمع عجباً من وزيرة القوى العاملة المصرية وهي تعلق بفرح شامت على القرار بقولها "يسلِّموا نفسهم أحسن" وتعني هنا الأسماء البارزة في شباب ثورة يناير، الذين كان الحاكم العسكري يسعى حثيثا لالتقاط صور تذكارية معهم حينما كان الكل يتملق الثورة.
باختصار يرى المسؤولون في مصر أن كون المواطن "إخوانيا" أو مشتبها في انتمائه للإخوان يجيز قتله، كما أن المواطن المنتمي لثورة يناير مستباح في حريته وفي عرضه وفي ماله "حالة مذيع الجزيرة أحمد منصور نموذجا".
ولو حاولت أن تقيّم مصر بمعايير "المعسكر" فستكتشف أنها في حالة من الرخاوة والبلادة الأمنية التي تجعلها عرضة لضربات موجعة هنا وهناك، على الرغم من كل هذا البطش الذي تمارسه سلطاتها قضائياً وشرطياً وعسكرياً، حتى إنها تضرب في المكان ذاته مرتين وثلاثاً ولا تتعلم أبداً.
وإلى أن تصبح حياة طالب الجامعة المتظاهر لها نفس قدسية حياة جندي الأمن المركزي والضابط، ومادام دم المعارض أرخص من دم قامعه، ستظل مصر أقرب إلى الشركة المملوكة لجماعة تبحث عن التربح من الدماء فقط.. ليست دولة ولا معسكراً!

0 التعليقات:

Post a Comment

 
الحصاد © 2013. All Rights Reserved. Powered by Blogger Template Created by Ezzeldin-Ahmed -