تضمن "متن" تقرير لجنة تقصي حقائق 30 يونيو عدة عيوب وعورات منهجية أساسية جعلت التقرير يبدو وكأنه جزء من حملة العلاقات العامة التي قامت بها الحكومة المصرية لتحسين صورتها وغسل يدها من الجرائم التي حدثت. ما هي تلك العورات المنهجية؟ يجيب التقرير التالي عن هذا السؤال.


1 - الخصم هو الحكم

من أهم الانتقادات لمنهج التقرير أنه أنجز في إطار بيئة صراعية جعلت اللجنة معادية للظاهرة التي تحقق بخصوصها. فاللجنة مشكلة بقرار جمهوري، وبديهي أن يكون هناك اتجاه رافض لموقف المعتصمين في ميداني رابعة والنهضة، وهو ما من شأنه أن ينتج تقريرا مشوها.

ولم تتوقف اللجنة لتقييم وضعها كجهة منبثقة عن أحد أطراف الأزمة، وهو ما كان من المفترض أن يقودها لاستيفاد مراقبين ترتضيهم كل أطراف المشهد، خاصة وأن ميزانية اللجنة مفتوحة بموجب نص القرار الجمهوري. فقد أفاد التقرير أن ورخص القرار للجنة في سبيل أداء مهامها أن تستعين بمن تراه من المسئولين والخبراء والفنيين من كافة الجهات الحكومية وغير الحكومية، وأن تطلب تزويدها بكافة الأجهزة والأدوات والآليات من كافة الوزرات والجهات الحكومية لتيسير أداءها. كما نص على تدبير الاعتمادات المالية اللازمة للجنة لمواجهة نفقاتها وأنشطتها بالاتفاق بين رئيس اللجنة ووزير المالية.

اعتمدت اللجنة في تحصين رؤيتها فقط على سمعة القضاء المصري وقضاته، حيث ضمت 25 قاضيا، وأسندت رئاستها إلى أ. د. فؤاد عبد المنعم رياض القاضي الدولي السابق وأستاذ القانون. والأهم أن التقرير يشير إلى تولي مساعد وزير العدل السابق للتعاون الدولي د. إسكندر غطاس منصب نائب رئيس اللجنة وأوكل اليه مسئولية التنسيق والمتابعة مع الجهات والأجهزة المختصة، كما أوكل إليه الإشراف على إعداد التقرير النهائي للعرض على اللجنة توطئة لإصداره. كما ينوب عن رئيس اللجنة في حالة غيابه. وبصرف النظر عن كون د. إسكندر غيطاس ينتمي للسلطة التنفيذية، إلا أن ما أسند إليه يجعله المدير الفعلي لعملية إصدار التقرير.

غير أن اللافت أن الاستناد لسمعة القرار المصري لم يكن ضمن رؤية متكاملة تحاول التحكم في إخراج صورة القضاء المصري للنور، حيث صدر عن القضاء المصري طيلة الفترة الماضية ما جعل رموزا مصرية فكرية وسياسية وثقافية تتنظر للقضاء المصري وكأنه كطرف في الأزمة، أو على الأقل باعتباره فاقدا للاستقلال مما دفعه لإصدار أحكام استغربها العالم أجمع.

يستمر التقرير في محاولة مداراة تحيزه، حيث ينص في بند منهجية التقرير على أن اللجنة المعدة للتقرير قد استأنست بشهادات من جميع الأطياف من قيادات سياسية ودينية وتنفيذية وفكرية وأمنية، سواء للتعرف على خلفيات بعض القرارات، ومسار الأحداث، أو الحلول المطروحة لمعالجة بعض أنماط المشاكل المزمنة التى أسهمت في تفجر العنف. غير أن هذه الفقرة في ذاتها تمعن في إثبات تحيزه؛ فهي لم تعد أن تكون قد استنسخت صورة البيان الأول الصادر في الثالث من يوليو، حيث وقف الفريق أول عبد الفتاح السيسي – آنذاك – محاطا بنخبة من أكبر القيادات الدينية الرسمية والحزبية ليتلو نص بيان القوات المسلحة الذي بدأ الأزمة بعزل الرئيس الأسبق محمد مرسي.


2 - تمويل التقرير

بحسب منطق الدولة المصرية، فإن نتائج أية عملية معلوماتية تعكس أجندة مصادر تمويلها. جدير بالذكر في هذا السياق، أن اللجنة التي أوكل إليها مراجعة التقرير لم يصدر بحقها لائحة مالية تحدد مكافآت أعضائها الدائمين، أو مكافآت من تستعين بهم من الخبراء الحكوميين وغير الحكوميين، ولم تنشر قائمة بهذه المكافآت حتى تاريخ كتابة هذه السطور، وهو ما يلقي بظلال من الشك على أداء هذه اللجنة.

ويشير التقرير في محور المنهجية إلى أن القرار الجمهوري المنشئ للجنة قد نص على ضرورة تدبير الاعتمادات المالية اللازمة للجنة لمواجهة نفقاتها وأنشطتها بالاتفاق بين رئيس اللجنة ووزير المالية.

تلك الاعتمادات المالية خاصة بالرواتب والمكافآت وحتى المعدات، فقد نقل متن التقرير عن القرار الجمهوري ترخيصه للجنة أن تستعين بمن تراه من المسئولين والخبراء والفنيين من كافة الجهات الحكومية وغير الحكومية، وأن تطلب تزويدها بكافة الأجهزة والأدوات والآليات من كافة الوزرات والجهات الحكومية لتيسير أداءها.

إن قرار تمويل اللجنة من خلال النص على العلاقة المباشرة بين رئيس اللجنة ووزير المالية من أهم المؤشرات على تحيز التقرير. فماذا لو كانت اللجنة تسير في طريق لا يرضي وزير المالية أو رئيس الحكومة أو الأجهزة السيادية التي كانت على علم دائم بمسار عمل اللجنة.


3 - "الأماكن" التي شغرت في اللجنة

من المهم بمكان أن نتوقف حيال إحدى العبارات التي وردت بصياغة مبهمة في التقرير، حيث لفت التقرير في البند الخاص بتشكيل اللجنة إلى ما أسماه "تعديلات محدودة لشغل أماكن شغرت".

ينص التقرير على أن "المستشار عدلي منصور رئيس الجمهورية أصدر القرار رقم 296 لسنة 2013، وذلك في 20 ديسمبر 2013 بتشكيل "لجنة قومية مستقلة لجمع المعلومات والأدلة وتقصي الحقائق التى واكبت ثورة 01 يونيو 2100 وما أعقبها من أحداث، وتوثيقها وتأريخها". برئاسة الأستاذ الدكتور فؤاد عبد المنعم رياض، القاضي الدولي السابق وأستاذ القانون. وعضوية نخبة من أعالم القانون البارزين، أُدخل عليها تعديلات محدودة لشغل أماكن شغرت، أو تعزيز قدراتها بضم أعضاء من تخصصات أخرى".


ما هي "الأماكن" التي شغرت؟ ومن كان يشغلها؟ وهل سبب شغور هذه "الأماكن" اعتراض على منهج عمل اللجنة؟ أم كان سبب شغورها اعتراض على تفاوت "مبلغ المكافأة" المرصود لكل "مكان" داخل اللجنة أم بسبب تعمد إخفاء معلومات أم بسبب أجندة "غير معلنة للجنة؟ ففي النهاية لا يمكن أن نعمم على كل القضاة ذلك التقييم الذي رصده رموز المجال العام حول أداء القضاة.


4 - التحيز في نظر الشكاوى

كان من أهم التناقضات التي برزت خلال التقرير تأكيده على غياب المعلومات والتعاون من جانب جماعة الإخوان؛ وبخاصة فيما يتعلق بإثبات الادعاءات التي أثارتها المواقع الإعلامية المعبرة عن الجماعة ومن يتحالفون معها. إلا أن الإجراءات المنهجية - في نفس الوقت – لم تتضمن التحقيق في مسار الشكاوى التي قدمت، والتي نشرت بمختلف المواقع وليس فقط مواقع الإخوان ومناصريهم في أعقاب إجراءات فض الاعتصام، والتي تثبت كثيرا من الوقائع.

أسرفت اللجنة في الاعتماد على تقارير وزارة الداخلية، وهي الطرف الذي قام بالفض، وهو طرف من مصلحته أن يخفي أية ادلة قد تقود إلى إثبات تورط الشرطة المصرية في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.

تضمنت التقارير الإعلامية التي من المفترض أن اللجنة رصدتها بموجب تصريحها، تضمنت لقاءات مع مواطنين أفادوا أن أطباء الطب الشرعي رفضوا أن يشرحوا الجثث أو أن يمنحوا الجثث تصاريح دفن مذكور فيها أسباب الوفاة. وأفاد بعضهم أن حضور ممثلين عن منظمات حقوقية دفع أولئك الأطباء لتشريح الجثث. كما لم تحقق اللجنة بعدد الجثث التي ظلت ملقاة إلى جانب المشرحة لمدة زادت على أسبوعين.

كانت النتيجة أن عددا محدودا من الجثث هو ما خضع لتحقيق، وألقى التقرير حياله باللوم على الإدارة المصرية التي "سمحت بنشوء الاعتصام وإطالة أمده؛ مما أدى لتزايد حالات الوفاة". لكنها – كما يبدو - لم تحقق مع أعضاء المنظمات الحقوقية الذين أدلوا بشهادتهم، وكما يبدو أيضا – فإنها لم توضح نتائج التحقيق مع د. هشام عبد الحميد الذي كان له تصريحات كشفت عمق الأزمة الخاصة بموقف الطب الشرعي في تلك الفترة. هذا، ولم يذكر التقرير عن الجثث سوى أنها ضربت من الأمام أو الخلف أو من أعلى، دون أن يلفت لأنواع العيارات النارية التي أصابت الجثث؛ على أمل أن تحدث مضاهاة للأسلحة المصورة في الفيديوهات التي نشرها التقرير بإصابات الجثث التي تم تشريحها.

اكتفى التقرير بنفي موظفي هيئة الطب الشرعي كونهم امتنعوا عن منح شهادات وفاة لبعض الجثث التي وصلتهم، وكان من نتائج التقرير حيال تلك الواقعة أن ألقى باللائمة "الجنائية" على أقارب قتلى رابعة والنهضة لأنهم "دفنوا جثثهم بدون تصريح".


5 - استعداء اللجنة على أحد الأطراف

تضمن تقرير لجنة تقصي الحقائق أيضا فقرة تنم عن محاولة لاستعداء اللجنة على المعتصمين في رابعة والنهضة، حيث نص التقرير على ما يلي:

ثبت من الخطط المضبوطة لدى أعضاء جماعة الإخوان في الجناية رقم 2210/ 2014 قسم العجوزة أنها تنوعت ما بين خطط لمواجهة الدولة بالمقاطعة الاقتصادية والاجتماعية، وتعطيل أجهزتها وإنشاء حكومة موازية، وإرهاق الأمن وكسر وزارة الداخلية لإسقاط النظام، وتشكيل قوة الدفاع الشعبي للقبض على عدد من رجال القضاء ورجال النيابة والقيادات الأمنية ومحاكمتهم علنا، وكذلك خطة لتقطيع أوصال الدولة بقطع الطرق ووسائل المواصلات، وخطة إعلامية تتبنى إستيراتيجية الإلحاح في تكرار الخبر أو المعلومات حتى تصبح حقيقة يصعب نفيها، والتواجد بكل وسائل الإعالم للنفي الفوري لكل ما يتسرب من حقائق للإعلام، كما بثوا صورا ومواد فيلمية لأحداث وقعت بالخارج على أنها حدثت في مصر، وأشخاص يدعون الإصابة وعلى ملابسهم الخارجية ما يشبه الدماء، وبكشف الملابس الداخلية يتبين خلوها من أية آثار لدماء أو جروح.

الفقرة السابقة بها عيبان منهجيان: أولهما العيب الخاص باعتمادها على محضر جنائي سجلته الشرطة فيما يتعلق بالجماعة، واعتبرت المعلومات الواردة في هذا المحضر من المسلمات في حين أنها لا تعدو كونها محضرا لم يحل للنيابة، فضلا عن أن يصدر به حكم قضائي. لكن الأخطر أنها مع اعتبارها التقرير من المسلمات؛ فإن التقرير ينطوي على ادعاء باتجاه المعتصمين نحو خطف عدد من القضاة ورجال النيابة. وهو ما يعني وجود تحيز مسبق لدى اللجنة؛ يضاف إلى أول ما وصفت به مرحلة الرئيس المعزول مرسي من إصراره على عدم تأدية القسم أمام المحكمة الدستورية.


6 - تأويل الفيديوهات


كان من أهم الدلائل التي اعتمدت عليها لجنة تقصي حقائق 30 يونيو ما اعتبرته فيديوهات مصورة من جانب الشرطة، وفيديوهات مصورة من جانب مواطنين كانت بيوتهم تطل على الميدانين. غير أن الملاحظة الأساسية التي ترد على هذه الفيديوهات أنها كنت غير واضحة، وهنا أتى دور لجنة تقصي الحقائق لتتولى توجيه عملية مشاهدة هذه الفيديوهات، ولم تثبت مواقع حملة الأسلحة وموقعهم من فض الاعتصام؛ في الوقت الذي شهد مسرحا الحادث وجود عناصر شرطة بزي مدني وعناصر أسماهم التقرير مواطنين. فكان التقرير لا يتعامل مع توصيف الفيدوهات كما هي، بل كان يوجه عملية توصيف الفيديو لتصب في صالح هدفه الأساسي.

لم تتعامل اللجنة مع كم كبير من الفيديوهات نشر على شبكات التواصل الاجتماعي كانت تصور عمليات إطلاق النار على التجمعين؛ سواء على الأرض أو من فوق أسطح المنازل، وبخاصة أحداث فض اعتصام النهضة الذي لعب فيه "مواطنو بين السرايات الشرفاء" دورا في إدارة عملية فض الاعتصام.

مصر العربية

0 التعليقات:

Post a Comment

 
الحصاد © 2013. All Rights Reserved. Powered by Blogger Template Created by Ezzeldin-Ahmed -