السياسة عالم قاس لا يعرف الرحمة، لا مكان فيه لمن لا يمتلك ما يجعله مؤهلًا للوجود في دائرة التأثير وصناعة الضغط، ليس هناك شيء مجانء يمنحه أحد لأحد، فكل شيء بمقابل، حتى لو لم يكن لحظيًا فإن له ميعاد استحقاق، من الحماقة أن تبحث عن دور دون أن تمتلك الأوراق التي تمنحك فرصة اللعب داخل الدائرة، ينطبق هذا على الأفراد والكيانات وكذلك الأفكار والمشاريع.

إذا تأملت مشهد الصراع بين الثورات والثورات المضادة في العالم العربي، ستدرك الفارق بين نجاحات الثورة المضادة في امتلاك أوراق التأثير ومفاتيح القوة، وإخفاق الثورات الحقيقية في قراءة الواقع المتغير بسرعة مذهلة والتعاطي مع ملامحه وتطوراته؛ لذلك، لا بد من الوقوف والتأمل بكثير من التحليل لما أنجزته الثورات المضادة مع اختلاف حالة كل قطر، وان كانت هذه الأوراق تتشابه في أغلب الحالات، ويمكن البحث عن مقومات القوة عبر المحاور الآتية (الجماهير، صناعة الخوف، الإعلام، رأس المال، التأثيرات الإقليمية والدولية، القوة الخشنة وتوظيف المؤسسات، تطييف الشعوب).

أولًا: الجماهير

الناس هم مستهدف السياسيين الأساسي، وهم النواة الصلبة لبناء أي نظام أو هدمه، ولا يعني هذا بالضرورة تحرك الشعب بأكمله في حالة الحراك السلبي أو الإيجابي؛ بل على الأقل تحرك الكتلة النوعية الحرجة التي تدعمها صفوف أخرى تقبع في بيوتها، لكنها توافق على ما تطلبه الكتلة النوعية إما بالتأييد المعلن أو حتى بالصمت والرضا، وسيكولوجية الشعوب تقول إنها تتعاطف مع المظلوم، ولكنها تتبع القوي الذي تشعر أن بيده الجزء الأكبر من القوة بمختلف أشكالها؛ لذلك، الانشغال عن الجماهير والانفصال عنها وعدم قراءة تفضيلاتها وعدم إدراك أولوياتها الآنية، هو أكبر خطأ يمكن الوقوع فيه؛ حيث يقرر الساسة أن لهم خريطة أولويات منفصلة عن الناس، وقد يستكبر بعضهم ويقوم بتسطيح ورمي اهتمامات الناس بالتفاهة ليزدادو بعدًا عنه وجفاء منه رغم تأييدهم السابق له، وهنا يبرز من يقدم نفسه للناس بمنظر العارف بمشاكلهم والمحيط بهمومهم، ويقوم بالنفخ في هذه الهموم واللعب على مشاعر الترضية النفسية رغم أنه لا يبيع لهم غير السراب، ولكنهم يستأنسون به ويحولون عيونهم إليه ويعبرون عن تأييدهم له، لمجرد تحقيق الإشباع النفسي لديهم بوجود من يفهمهم ويقدر أولوياتهم ويحترمها، حتى لو بالقول دون الفعل!

وإذا عدت للحالة المصرية، ستجد أن الثوار أداروا ظهورهم للناس وانشغلوا بقضايا الاحتجاج السياسي، بينما كانت الجماهير تبحث عن نسمات الاستقرار -ولو كان مزيفًا- بالتوازي مع الأولويات الاقتصادية والاجتماعية التي تلخص رحلة البحث عن لقمة العيش، أولويتها القصوى، اعتقد الثوار أن حقوق الإنسان وتفصيلات الدستور ومبادىء الحريات ستجمع الجماهير حولها، واكتشفوا أن قطاعات كبيرة من الناس مستعدة للتغاضي عن ذلك وإهماله مقابل شعورهم بالأمن ووجود لقمة عيش، حتى لو كانت لقمة مدنسة ومنتقصة ولا تمثل الا الفتات من حقوق هذه الجماهير.

كان الناس قد ضجوا من التظاهر ومظاهر الاحتجاج المتنوعة ومن حالة الاحتجاج بشكل عام، فيقوم الثوار بمزيد من الاحتجاج والإصرار على أن الطريق لا بد أن يمر من هنا وإلا فلا! ؛ فكانت النتيجة أن الثورة المضادة لعبت على وتر الاستقرار، وقدمت نفسها للناس على أنها أحرص الناس على مصلحتهم، بعكس هؤلاء الثائرين الذين يشعلون الدنيا صياحًا وصراخًا ولا يرضيهم شيء، كان الثوار يناضلون من أجل حقوق الناس وحياة أفضل لهم عبر إقامة الديمقراطية، لكنهم لم يستطيعوا أن يقنعوا الجماهير أن حياتهم لن تتغير للأفضل بدون الديمقراطية وأنها الأساس لتحقيق الأمن والحياة الكريمة، فتسرب الناس من بين أيديهم واقتنع كثير منهم أن الديمقراطية ضد مستقبلهم وتهدد مصالحهم، ووصل البؤس ببعضهم إلى إعتبار المطالبين بالديمقراطية عملاء وخونة وأعداء للوطن.

وهنا، يجب التأكيد أن الناس سيظلون هم محور التغيير وسر النجاح، وإما أن يكونوا لك أو يكونوا عليك طبقًا لما ستعاملهم به وكيفية وصول أفكارك لعقولهم واقتناعهم بها، ولتظل مطمئنًا طالما أن هناك جمهورًا يساند فكرتك ويتفهم رسالتك، ولكن عليك أن توسع رقعته وتُحصن وعيه وتثير خياله.

ثانيًا: صناعة الخوف

يقول علماء النفس إن الترهيب يفوق تأثير الترغيب؛ لأن غريزة الخوف تغلب الرغبة، وإذا استطعت أن تزرع الخوف في قلب إنسان فقد ملكته وسيطرت عليه واحتكرت توجيهه؛ لذلك، ظلت صناعة الخوف مهنة الطغاة وصنعة كل ديكتاتور يستعبد الناس ويفرض سطوته عليهم، وبقدر ما يستطيع أن يخيف شعبه بقدر ما يستمر في حكمه، وإذا تكسر حاجز الخوف تآكل هذا الحكم القهري وانهارت أركانه، ولا يمكن قصر الخوف على يد تقمع وسوط يلهب وقيد يدمي، فكل ما يصيب الناس بالهلع والجزع هو خوف يسهم في السيطرة عليهم وإخضاعهم لما يريده صُناع الخوف، ومنذ انطلقت الشرارة الأولى للثورة نشطت صناعة الفزاعات التي استند بعضها لخلفيات حقيقية، بينما كان أغلبها خرافات وأوهام وبالونات تم النفخ فيها؛ لوضع الناس تحت التهديد؛ ليقبلوا أي شيء وليتنازلوا عن كل شيء من مكتسباتهم التي حققتها تباشير الثورة وأيامها الأولى.

كان الثوار يسخرون من الفزاعات ولا يتوقعون أن هذه الفزاعات -والتي تورط في صياغتها وتقديمها بعض الإعلاميين التافهين بالفعل- سوف تكبر وتتحول من حالة تندر إلى حالة عامة، تجعل الناس تردد بلا وعي ما يُطلب منهم ترديده والاقتناع به، لم يعمل الثوار على تفنيد الفزاعات والتعامل معها بجدية حتى كبرت وتضخمت وانفجرت في وجوههم، ولم يستطيعوا من ناحية أخرى عمل فزاعات إيجابية موازية تجعل الناس تتمسك بما أنجزته اللحظات الثورية وتدافع عنه خوف الانجراف والسقوط في إرث الماضي.

عاد الخوف لقلوب الناس بعد أن تحرروا من سلطانه بعض الوقت، وخضعوا لتأثير الخوف المتلاحق من أعداء وهميين يُبالغ في قوتهم وخطورتهم لتتحقق فكرة البحث عن منقذ ومُخلص، ومن ثم الخضوع لكل ما يراه هؤلاء بحثًا عن أمان زائف.

إذا كانوا يسيطرون على الناس بالخوف السلبي، فقد كان الأجدر مساعدة الناس بالخوف الإيجابي الذي يجعلهم يرفضون الخضوع والعودة لحضن من ثاروا عليهم.

التأمل في مقومات القوة حديث يطول؛ لأهميته في السير للمستقبل واستدراك ما مضى؛ لذلك، فالحديث موصول في مقال الأسبوع القادم.

0 التعليقات:

Post a Comment

 
الحصاد © 2013. All Rights Reserved. Powered by Blogger Template Created by Ezzeldin-Ahmed -