الدلائل كثيرة على أن الدولة على أعلى المستويات تدخلت بطريقة مباشرة فى تكوين قائمة «فى حب مصر»، وتدخلت أيضا لإضعاف القوائم المنافسة، مما يجعل المنافسة الانتخابية مستحيلة.. وقد أصبح واضحا للجميع أن البرلمان القادم لن يمثل الشعب المصرى، وإنما سيكون خليطا من مجموعتين اختارهما نظام مبارك والأجهزة السيادية فى النظام القائم.
هذا الكلام ليس لى. ولا هو صادر عن شخصية معارضة، أو منظمة حقوقية ناقدة أو شاب متمرد. لكنها شهادة أوردها الدكتور محمد أبوالغار رئيس الحزب المصرى الديمقراطى، فى مقالة نشرتها له جريدة «المصرى اليوم» فى الأسبوع الماضى (يوم 16/2).. وقد أورد شهادته ضمن ملاحظات ست على الأوضاع القائمة جاءت تحت العنوان التالى: المخاطر التى لايراها الرئيس. وذكر فى ختامها أن تفاؤله تراجع وأن «المستقبل السياسى مظلم».
الملاحظات التى أبداها الدكتور أبوالغار مهمة فى مصدرها فضلا عن مضمونها. فالرجل كان جزءا من تحالف 30 يونيو، بمعنى أنه هو وحزبه كانا ضمن القوى الليبرالية التى عارضت نظام الدكتور محمد مرسى، وعلقت آمالا كبيرة على التحالف مع الجيش لإسقاطه وإقامة نظام جديد يعيد للمجتمع المصرى أمله فى التغيير إلى الأفضل. لذلك فإن الانطباع المتشائم الذى عبرت عنه مقالته لابد أن يستوقفنا. ذلك أن كثيرين ما برحوا يتحدثون عن عزوف الشباب وإحباطاتهم التى أحدثت فجوة بينهم وبين النظام القائم. ولذلك فإن المسئولين ظلوا حريصين طول الوقت على محاولة جذبهم واسترضائهم. وهو ما لاحظناه فى الوعود والإجراءات التى اتخذت لتعيينهم فى المناصب العليا إلى جانب الوزراء والمحافظين. إلا أننا فوجئنا بأن الفجوة المشار إليها امتدت إلى عدد غير قليل من الشيوخ أيضا. أحدث هؤلاء الدكتور أبوالغار الذى تجاوز السبعين من العمر. وهو أستاذ الطب الذى تحول إلى ناشط سياسى منذ انضمامه عام 2003 إلى حركة 9 مارس لاستقلال الجامعات، ثم انضم إلى الحركة الوطنية للتغيير، وبعد ذلك أسس مع آخرين الحزب المصرى الديمقراطى. وقد فاجأنا فى مقالته بأنه قرر ترك رئاسة الحزب هذا العام.
ليس الدكتور أبوالغار وحيدا فى ذلك، لأن الإشارات إلى تدخل السلطة فى القوائم الانتخابية متواترة فى الصحف المصرية. وهذا التواتر حاصل أيضا فى الحديث عن انفراط عقد النخب التى شكلت «تحالف ٣٠ يونيو»، الأمر الذى تمنيت أن يخضع للدراسة والتحليل. وكانت مؤشرات ذلك التراجع قد برزت فى محيط شباب ثورة ٢٥ يناير، الذين توزعت رموزهم بين السجون والمنافى، إلا أنها لاحت أيضا فى محيط الشرائح الأكبر سنا التى تقدمت الصفوف وشاركت فى تعبئة الرأى العام وتوجيهه فى 30 يونيو. وهو ما يعنى أننا بإزاء أزمة لايبدو أنها نالت ما تستحقه من الاهتمام.
الموضوع الذى أثارته شهادة الدكتور أبوالغار شديد الأهمية والحساسية. خصوصا حديثه عن تدخل أعلى المستويات بطريقة مباشرة فى تكوين القائمة المشار إليها. ليس ذلك فحسب، وإنما كون ذلك التدخل ذهب إلى أبعد بسعيه إلى إضعاف القوائم المنافسة. ولئن جاءت إشارته صريحة ومفصلة إلا أنه لم ينفرد بالشكوى من فكرة تدخل السلطة لصالح قائمة الأجهزة السيادية (هكذا وصفت) الأمر الذى يثير العديد من علامات الاستفهام والتعجب. ناهيك عن أنه يعيد إلى الأذهان تجربة انتخابات عام 2010 التى جرت فى عهد الرئيس الأسبق حسنى مبارك. مع فارق شكلى بسيط هو أنها تمت تحت رعاية طرف آخر فى الأجهزة السيادية. (بالمناسبة لايزال موجودا على الانترنت حتى الآن نص تقرير منظمة «مراقبون بلا حدود» الصادر فى 13/12/2010 الذى انتقد التدخلات الأمنية الإدارية للأجهزة التنفيذية الحكومية فى سير العملية الانتخابية وإعلان اللجنة العليا لنتائج غير معبرة عن اتجاهات التصويت).
ما يقلق فى الأمر ليس فقط قيام الأجهزة السيادية بالتدخل لصالح قائمة ومحاولة إضعاف قوائم أخرى، ولكن أيضا أن تتخلى مؤسسات السلطة التنفيذية عن حيادها المفترض فى انتخابات السلطة التشريعية بحيث تسعى للتأثير فى تشكيل البرلمان القادم. وهذا التدخل إذا كان قد تم فى إعداد القوائم فإنه لن يكون مستغربا إذا تم فى الانتخابات الفردية، الأمر الذى يعنى أنه يراد للمجلس القادم أن يكون معبرا عن السلطة وليس عن المجتمع. وإذا تحقق ذلك فإنه يعيدنا إلى سيناريو انتخابات عام 2010 مع الاختلاف فى الوجوه والتفاصيل.
صحيح أن ثمة اتفاقا بين المحللين على أن البرلمان القادم سيكون ضعيفا لأسباب كثيرة فصل فيها آخرون، ربما كان أهمها ضعف الأحزاب وشيوع الجدب السياسى بشكل عام. وذلك أمر يمكن احتماله نظرا لحداثة النظام الجديد، لكن هناك فرقا بين برلمان ضعيف يؤمل فى تعافيه بمرور الوقت، وبرلمان معوق منزوع العافية منذ لحظة ميلاده. وأخشى ما أخشاه أن تتسبب التدخلات فى إصابة البرلمان القادم فى مصر بالإعاقة المبكرة.
ما لايدركه المسئولون فى أجهزة السلطة الذين يسعون إلى التدخل فى تشكيل البرلمان القادم أنهم بما يفعلونه قد يحقق لهم كل ما يريدون. إلا أن ما قد يعتبرونه إنجازا من وجهة نظرهم سوف يفقدهم أهم أركان التفاعل بين السلطة والمجتمع. ذلك أنهم بذلك «الإنجاز» يفقدون ثقة الناس فى المسار السياسى وفى البرلمان ذاته. ومن ثم يبددون آمالهم التى علقوها على المستقبل. إذ ليس صحيحا أن التدخل فى الانتخابات يشكل خطوة إلى الأمام. لأنه فى حقيقته انتكاسة وخطوة إلى الوراء. ولا سبيل إلى استرداد تلك الثقة إلا برفع أيادى الأجهزة عن العملية برمتها، وترك المعركة الانتخابية للناس لكى يصنعوا هم نتائجها بحيث تأتى معبرة عن مواطن الضعف والقوة فيهم. وتعيد إليهم ثقتهم فى أنفسهم وفى السلطة. وذلك هو الفوز الأكبر لو تعلمون.
0 التعليقات:
Post a Comment