كان مفهوما أن ترشح وزارة الثقافة موضوع «الثقافة والتجديد» عنوانا لمعرض الكتاب الذى شهدته القاهرة فى الفترة من ٢٨ يناير إلى ١٢ فبراير الحالى. وكان مناسبا وموفقا اختيار الإمام محمد عبده ليكون شخصية المعرض. باعتباره أحد أبرز رموز التنوير والتجديد فى القرن العشرين.


 ولاينتقص من هذا وذاك أن يتم تجاوبا مع الدعوة التى أطلقها الرئيس عبدالفتاح السيسى فى الخطاب الذى ألقاه بمناسبة الاحتفال بالمولد النبوى فى الأول من شهر يناير الماضى. وتحدث فيها عن أهمية تجديد الفكر الإسلامى، وهو المعنى الذى قصده بإشارته إلى أهمية أحداث «الثورة الدينية».

ولذا كان التخطيط مفهوما إلا أن التنفيذ جاء ملتبسا وغير مفهوم. ذلك أنه حين يطرح اسم الإمام محمد عبده فى أى محفل علمى أو ثقافى فإن المثقف العادى يتوقع وجود الدكتور محمد عمارة ضمن الجالسين على منصة الحديث عنه أو المتحلقين حول طاولة مناقشة أفكاره. ذلك أن الرجل أفنى بعض سنين عمره فى تجميع الأعمال الكاملة للإمام الراحل. وقد صدرت الطبعة الأولى منها فى بيروت عام ١٩٧٢، أى قبل أكثر من أربعين عاما، وفى بداية التسعينيات طبعت دار الشروق الأعمال الكاملة فى مصر. وفى عام ٢٠١٠ طبعتها مكتبة الأسرة، ثم طبعتها مكتبة الإسكندرية بعد ذلك إسهاما منها فى إثراء الفكر الإسلامى بعطائه الفريد. وإلى جانب الأعمال الكاملة فإن الدكتور محمد عمارة أصدر نحو عشرة كتب عن أفكار محمد عبده، الأمر الذى حول الرجل إلى مرجع لاغنى عنه فى أى تناول لفكر الإمام الراحل. إلا أن ما حدث بعد ذلك كان مدهشا ومحزنا فى الوقت ذاته. ذلك أننى حين تابعت برنامج المعرض لكى أحضر الجلسة التى سيتحدث فيها الدكتور عمارة، لم أجد اسمه فى بداية الأمر. ولسذاجتى فإننى أرجعت ذلك إلى الأخطاء المطبعية التى تنشرها الصحف، ولأننى اعتبر نفسى من ضحاياها. لكننى حين اتصلت به هاتفيا لأسأل عن موعد ندوته. فوجئت بأنه لم يدع أصلا إلى ندوات المعرض، وأنه تم تجاهله تماما فى كل الفعاليات المتعلقة بالإمام محمد عبده. وهو ما استغربته ولم أجد تفسيرا حسن النية له، حتى أننى رجحت أن الاستبعاد كان متعمدا. حيث عجزت عن أن أفترض أن وزير الثقافة أو رئيس هيئة الكتاب أو أى مسئول آخر عن المعرض، لايعرف أن الدكتور عمارة بات طرفا أساسيا فى هذا الموضوع بالذات. الأمر الذى أقنعنى بأنهم يعرفون ولكنهم لايريدون له أن يكون موجودا. استبعدت أن يكون للأجهزة الأمنية دور فى ذلك، لأن للرجل أنشطته الأخرى فى مجمع البحوث الإسلامية وهيئة كبار العلماء وهيئة تحرير مجلة الأزهر. ولو كان هناك اعتراض أمنى على اسمه لتم إقصاؤه منها بسهولة. بقى بعد ذلك أمامى احتمال وحيد هو أن وزير الثقافة ورئيس هيئة الكتاب، أحدهما أو كليهما، أصدر قرار إقصاء الدكتور عمارة والشطب على اسمه من بين ضيوف المعرض. أى إنهما قاما بما لم تقم به الأجهزة الأمنية. ووجدت فى تفسير ذلك سببين، الأول أن الدكتور عمارة له اشتباكاته ومعاركه المستمرة منذ أربعة عقود على الأقل مع الفكر العلمانى ورموزه، التى بسطها فى كتبه ومحاضراته ومحاوراته. السبب الثانى أن الرجل لم يشترك فى حملة الهجوم على الإخوان، رغم أن له كتاباته المنشورة فى نقد فكر العنف وأخطاء الحركات الإسلامية.

لم تكن تلك هى المفاجأة الوحيدة، لأن الأمر لم يقتصر على استبعاد اسم الدكتور محمد عمارة، لأن وزير الثقافة ورئيس هيئة الكتاب قدما لنا مفاجأة أخرى. إذ وجدنا فى مقدمة الضيوف الذين دعوا للحديث فى موضوع التجديد والتنوير، ثلاثة من غلاة العلمانيين، أحدهم لبنانى والثانى سورى والثالث تونسى. ولأحدهم مقولة تمثل قاسما مشتركا تعبر عن مواقفهم خلاصتها أنه لاسبيل لتقدم العالم العربى إلا بعد تحرير العقل الإنسانى من امبريالية الذات الإلهية(!)

لست فى صدد مناقشة الفكرة. ولااعتراض لى على أن تكون تلك قناعة بعض غلاة العلمانيين رغم الاختلاف معها، كما أننى لا أعترض على استقبالهم فى مصر بما يستحقونه من احترام. لكن وجه الاعتراض والمؤاخذة ينصب على أن يكون حديث هؤلاء عن «التجديد والتنوير» فى جلسات عامة أمام الجمهور. وليس فى حضور النخب التى تستطيع أن تناقشهم فى أفكارهم التى يروجون لها.

كما افترضت سوء النية فى قرار الشطب على اسم الدكتور محمد عمارة، فإننى لاأستطيع أن أفترض حسن النية فى استقدام ثلاثة من الغلاة فى أجواء الحفاوة بالتنوير الذى أشاعه الإمام محمد عبده.

هذه المفاجأة الثانية تدفعنى إلى تسجيل ملاحظتين. الأولى أن وزير الثقافة المسئول الأول عن المعرض فضلا عن أنه عمد إلى تسييس المناسبة بإقصاء الدكتور عمارة، فإنه أيضا وظفها لصالح موقفه الشخصى وخصوماته الفكرية. الملاحظة الثانية أن فريق الغلاة من شلة الوزير ونظرائه أساءوا تأويل دعوة الرئيس السيسى إلى الثورة الدينية، وحاولوا تقديمها باعتبارها ثورة على الدين وانقلابا على تعاليمه ورموزه ومؤسساته. وليس دعوة إلى تجديد الفكر وتوظيف الاجتهاد لصالح مقاومة الجمود والتخلف والعنف ــ والضيوف الذين دعاهم من أنصار الثورة على الدين. التى عبرت عنها كتاباتهم المنشورة بين أيدى الكافة.

أما سؤالى الأخير فهو: هل يمكن أن ينسب هذا الذى حدث إلى الليبرالية والدولة المدنية أو حتى النزاهة الوظيفية والمسئولية الوطنية؟
الشروق

0 التعليقات:

Post a Comment

 
الحصاد © 2013. All Rights Reserved. Powered by Blogger Template Created by Ezzeldin-Ahmed -