البقرة في الهندوسية مقدسة ويجب حمايتها، وينظر لها على أنها أُمٌّ، وهي رمز الوفرة لصفاتها العظيمة، فهي تقدم اللبن، ومنتجات غذائية للإنسان والنبات، ولها مكانها المحترم في المجتمع، فلحمها حرام، والتعرض لها رذيلة كبيرة، فترى الأبقار تمشي في الشوارع دون أن يتعرض لها أحد، مهما سببت من الزحام، فالكل يقدسها ويعلي شأنها.
يقول الزعيم الهندي العظيم المهاتما غاندي:
"إن حماية البقرة التي فرضتها الهندوسية هي هدية الهند إلى العالم، وهي إحساس برباط الأخوة بين الإنسان والحيوان، والفكر الهندي يعتقد أن البقرة أم الإنسان، وهي كذلك في الحقيقة، إن البقرة خير رفيق للمواطن الهندي، وهي خير حماية للهند.
عندما أرى بقرة لا أعدني أرى حيواناً، لأني أعبد البقرة، وسأدافع عن عبادتها أمام العالم أجمع.
وأمي البقرة تفضل أمي الحقيقية من عدة وجوه، فالأم الحقيقية ترضعنا مدة عام أو عامين، وتتطلب منا خدمات طول العمر نظير هذا، ولكن أمنا البقرة تمنحنا اللبن دائماً، ولا تتطلب منا شيئاً مقابل ذلك سوى الطعام العادي.
وعندما تمرض الأم الحقيقية تكلفنا نفقات باهظة، ولكن أمنا البقرة تمرض فلا نخسر لها شيئاً ذا بال، وعندما تموت الأم الحقيقية تتكلف جنازتها مبالغ طائلة، وعندما تموت أمنا البقرة تعود علينا بالنفع كما كانت تفعل وهي حية، لأننا ننتفع بكل جزء من جسمها حتى العظم والجلد والقرون.
أنا لا أقول هذا لأقلل من قيمة الأم، ولكن لأبين السبب الذى دعاني لعبادة البقرة.
إن ملايين الهنود يتجهون للبقرة بالعبادة والإجلال، وأنا أعد نفسي واحداً من هؤلاء الملايين".
هذا كلام غاندي من مقالة كتبها في مجلة هندية في ستينيات القرن الماضي.
اليوم ... في عالم السياسة في مصر أصبح مطلوباً منا أن نلغي عقولنا، وأن نقدس مجموعة من المُسَلّمات كما يقدس الهندوسُ الأبقارَ، ومن يتابع الإعلام المصري سيرى بأم عينيه كيف يطالبنا مجموعة من "أشباه البقر" بتقديس وعبادة "البقر"!
وإذا كان الهندوس قد فاتهم مراجعة أنفسهم في شأن عبادة أو تقديس البقر، فأظن أن من حقنا أن نراجع أنفسنا في شأن إصرار وسائل الإعلام على جعلنا من عبدة البقر.
ما هي البقرات المقدسات في نظر إعلامنا؟
إنها خمس بقرات مقدسات.
البقرة الأولى:
السيد عبدالفتاح سيسي، وزير الدفاع السابق، ورئيس جمهورية الأمر الواقع حالياً، ولا أستطيع أن أفهم ما سر تقديس هذا الرجل؟ والغريب أن المطالبة بتقديسه تزداد كلما قَلَّتْ شعبيته في الشارع، وكلما ظهر فشله الذريع في إدارة الدولة المصرية، برغم كل الدعم المبذول له محلياً وإقليمياً ودولياً، وبرغم كل القتل والتنكيل وسفك الدماء والإجراءات الاستثنائية، ولست محتاجاً إلى تذكير القارئ بعشرات المواقف المثيرة للغثيان التي تمجده، وتشبهه بالرسل، وتمدحه مذ كان نطفة في بطن أمه ... وإلى آخر هذا الهذر !
يطالبوننا بتقديسه لأنه عسكري، ويتناسون أنه لم يخض معركة عسكرية في حياته كلها، ولو افترضنا أن له بطولات عسكرية، فإن ذلك واجبه الذي يفرضه عليه عمله، ولا يحق لأي عسكري أن يمنَّ على المصريين لأنه أدى واجبه.
قالوا لنا إنه المنقذ من الحرب الأهلية، وحين أفلس أصبح يحرض الناس على الاقتتال الأهلي، وقالوا لنا إنه رجل المخابرات الذي لا يقهر، ثم اتضح للجميع أنه لا يستطيع أن يؤمن مكتبه الشخصي، وأصبح مكتب وزير دفاع مصر مكشوفاً بأسراره أمام القاصي والداني، لأول مرة في التاريخ ... عهده الميمون !
البقرة الثانية : بقرة الجيش
وأغرب ما في هذا الأمر أن غالبية من يأمرونك بالتعامل مع القوات المسلحة كبقرة مقدسة، كانوا يهتفون منذ شهور "يسقط حكم العسكر" !
وإذا واجهتهم بذلك قالوا لك (كنا مخطئين)، وما الذي يضمن لنا ألا تكونوا مخطئين الآن أيضاً؟!
تقديس الجيش لم يكن أمراً مطلوباً حين كان الجيش يؤدي مهمته المقدسة في قتال الأعداء الحقيقيين (إسرائيل)، فكان الشعار (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة)، اليوم ... أصبح الجيش في عصر سلام، ولكن ترى عابدي البقر يقولون لك (الجيش خط أحمر)، وكأن من يطالب بإبعاد الجيش عن السياسة يهين الجيش أو يسيء إليه.
قال لي أحد عباد بقرة الجيش ذات مرة: (الجيش الذي لا يعجبك هو الذي منع مصر من أن تصبح سوريا أو ليبيا خلال السنوات الماضيات).
فقلت له : (ربما يكون قد فعل ذلك ... ولكن الحكم العسكري منع مصر أيضاً خلال ستين عاماً مضت من أن تكون اليابان أو حتى تركيا أو ماليزيا !!!
وانهيار الدول التي تحذرنا منها بدأ بدخول الجيش طرفاً في لعبة السياسة، وهو ما يحدث حالياً بشكل فج رخيص).
يا عابد البقر ... تذكر أننا لا نسمح بسقوط الجيش، ولا ننادي بذلك، وحين نقول (يسقط حكم العسكر)، فنحن لا نقول (يسقط الجيش، أو يسقط العسكر)، بل نقول (حكم العسكر)، الجيش يسقط إذا حكم، أما إذا تفرغ لواجبه المقدس، فهو على رؤوسنا.
الجيوش تسقط حين تنشغل عن مهامتها الأصلية بمهمات أخرى لا شأن لها بها.
البقرة الثالثة : بقرة الدولة
والدولة هنا بالمعنى السطحي، فليس المقصود أرض مصر، أو شعب مصر، أو حتى المؤسسات المصرية التي بنتها الأمة بسواعدها خلال قرنين من العمل الدؤوب، بل المقصود بالدولة المقدسة دولة الأجهزة الأمنية التي قتلت واغتصبت واعتقلت وتجسست ... المقصود الأجهزة التي سلطها الحكام الظلمة على المصريين عشرات السنين لكي تعمل خارج إطار القانون دون حساب أو عقاب.
(الدولة – البقرة) هي دولة الانتهاكات، دولة التكسب من المال الحرام، دولة التقارير الأمنية التي يُعَيَّنُ بها فراش المسجد ورئيس الوزراء، دولة الفقر والإذلال والتجويع والخضوع لكل رغبات الإمبريالية العالمية، بل الخضوع لكل الأجندات الإقليمية لدول محدودة التأثير، دول كانت تسير خلف مصر طوال عمرها، دولة توزيع الأراضي بعشر ثمنها، وتفكيك القطاع العام وبيعه "خردة" للأجانب.
إنها الدولة التي يقودها جنرال، ويحكمها مدير مكتبه، ويحرك قضاءها عضو في مجلس عسكري، ويوجه إعلامها متحدث رسمي لفلان أو علان، ويقتل أبناءها مع سبق الإصرار والترصد أمين شرطة بسبب استفزاز متهم مقيد بالكلابشات في سريره !
البقرة الرابعة : بقرة الأمن القومي
وهي بقرة تظهر في اللحظات التي تأتي الأوامر بظهورها، فهم يتذكرون الأمن القومي حين تظهر كلمة فلسطين، ولكنهم ينسونها حين تظهر كلمة إسرائيل، ويذكرونها مع المطالبة باستقلال الجامعات، ولكن ينسونها مع استعمال الفحم الحجري في المصانع، ويتذكرونها مع قانون التظاهر، وينسونها مع فض الاعتصامات وقتل الناس وحرق جثثهم.
إنها بقرة مقدسة تظهر وقتما يشاؤون، فهم يحددون مفهوم الخطر على الأمن القومي، ومن يهدد الأمن القومي، طبقاً لأهوائهم لا أكثر.
الأمن القومي يقتضي أن نسكت عن المطالبة بحقوقنا، ولكنه لا يقتضي أن نتحرك لحماية حدودنا، ويقتضي أن يقتل ويسجن عشرات الآلاف من المدنيين، ولكنه لا يقتضي محاسبة المقصرين الذين لم
يأمنوا جنودنا الواقفين في الخدمة والعربات المفخخة تمزق أشلاءهم بكل سهولة.
البقرة الخامسة : بقرة الصناديق
لا تضحك ... جُلُّ من قالوا إن الصناديق غير مقدسة، وإن الديمقراطية ليست مجرد صناديق، وملعون أبو الصناديق التي تأتي لنا بفلان أو علان ... هؤلاء أنفسهم يطالبونك بتقديس الصندوق الذي جاء "ببقرتهم" المقدسة، وسوف يقولون عن كل من يعترض على الصناديق لأنها زُوِّرَتْ، أو لأن العملية الديمقراطية في مصر أصبحت فارغة شكلاً ومضموناً ... سيقولون عنه كل ما تتخيله من ذم، وسوف توجه له التهم في وطنيته وشرفه وذمته المالية وسلوكه الجنسي ...إلخ !!!
أما من طالبوك باعتبار الصندوق بقرة مقدسة بالأمس فهم يطالبونك اليوم بذبح هذه البقرة، وذلك ليس عيباً، بل العيب أنهم يطالبون بذلك لأسباب غير موضوعية، وقد يطالبونك بتقديس الصناديق مرة أخرى حين تتغير الظروف.
لقد أصبح الدستور العسكري الحالي مقدساً لأنه جاء بالصناديق، ولكن لو شاءت أي "بقرة مقدسة" أن تُعَدِّلَ الدستور، فسيذبحون بقرة الصندوق بلا تردد، وإذا اعترض معترض فسوف يشهرون في وجهه بقرات مقدسة أخرى ... الدولة ... الجيش ... الأمن القومي .. إلخ !
نعم ... الأشخاص أنفسهم الذين طالبوك بتقديس الصناديق سيقذفون في وجهك روث بقرة مقدسة أخرى لكي يطالبوك بالتصويت لما يريدون !
هذه بقراتهم المقدسة، يطالبوننا بعبادتها، ومن يخرج عن ذلك سيصبح مصيره كسائح أجنبي، يذبح بقرة مسالمة في شارع رئيسي في مدينة نيودلهي في عز الظهيرة !
كلمتي لكل من يعبد البقر: لن نعبد أبقاركم، ولن نقدس إلا ما أمرنا الله بتقديسه : (حياة الإنسان، دم الإنسان، كرامة الإنسان، عرض الإنسان، حرية الإنسان، رغيف الإنسان).
الإنسان هو الكائن الأسمى الذي خلقه الله واستخلفه في الأرض، وكل بقراتكم المقدسة ليست أكثر من زور وبهتان، ولكم في تقديسها أغراض وأمراض.
عاشت مصر للمصريين وبالمصريين ...
اعتذار: ورد في مقالة السبت الماضي جملة شبهت فيها أحد الصحفيين المخبرين العاملين لصالح الانقلاب بالطفل "المنغولي"، وهي قلة ذوق مني، وتطاول على فئة من الناس تهب السعادة لمن حولها، ولا تعرف الحقد والكره والحسد، ووهبها الله من الطيبة والحب ما يقلل من قسوة الدنيا ومراراتها.
أعتذر بكل باقات الورد التي يمكن أن يحملها حرف يخجل من اندفاعه، أعتذر لكل من يؤذيه مثل هذا التشبيه، يعلم الله نيتي، ولكن النوايا لا تغني عن الاعتذار، أعتذر وأعتذر وأعتذر.
0 التعليقات:
Post a Comment