تمر مصر هذه الأيام بأزهى أيام الوعد الوعيد. ذلك أن وسائل الإعلام نصبت سرادقا كبيرا جرى تقسيمه بين الاثنين بحصة أكبر للوعود التى تحمل البشارات وترفع المعنويات وتمهد للربيع القادم. فمن مليارات باتت تنهال علينا كل صباح فى الصحف مع قرب انعقاد المؤتمر الاقتصادى العالمى الذى يفترض أن ينعقد فى بداية الأسبوع القادم، إلى انطلاقة جديدة فى مسيرة الحكومة ترفع منسوب التفاؤل عاليا فى ظل التعديل الوزارى الجديد الذى وصفه البعض بأنه انقلاب داخلى. أما الشق المتعلق بالوعيد فالرسائل الموجهة فيه عديدة، وكلها تحذر المقصرين والمتراخين والخطائين بالويل والثبور وبالحساب العسير الذى لن يرحم أحدا، من الوزير إلى الخفير.
لاغضاضة فى شىء مما سبق. ذلك أن أسباب الكآبة عندنا وفيرة، والمجتمع فى أمس الحاجة إلى جرعات من التفاؤل والاستبشار بالمستقبل. ثم إن لدينا فى مورثنا الثقافى ما يشجع على ذلك، وهو ما عبر عنه الحديث النبوى الذى يقول «تفاءلوا بالخير تجدوه». مع ذلك فلدى عدة ملاحظات على المشهد بشقيه أوجزها فيما يلى:
• إننى أتمنى أن نفرق بين إشاعة التفاؤل وتسويق الأوهام. والفرق بين الاثنين يتمثل فى الفرق بين رؤية تعتمد على تقدير مسئول لمعطيات الواقع وأخرى تنبنى على التمنيات والأحلام وتستهدف تنويم الناس وتخديرهم أو إلهاءهم عن رؤية الواقع. والرؤية الأولى يفترض أن تكون قد تشكلت بناء على دراسة لأهل الاختصاص والخبرة، أما الثانية فهى من قبيل الفرقعات السياسية والإعلامية.
• إن المراهنة على الخارج فى إشاعة التفاؤل هى من قبيل المغامرة أو المقامرة. وإذ لا أختلف مع الذين يلحون على ضرورة تشجيع الاستثمارات الأجنبية. كما أننى أفهم أن ذلك أمرا لا غنى عنه فى العالم المعاصر. لكننى على قلة باعى فى الشأن الاقتصادى أفهم أيضا أنه لاغنى عن ضرورة إسهام الداخل بطاقاته وإبداعاته. بل أزعم أن أداء الداخل هو عنصر الجذب الأساسى لاستثمارات الخارج، ولو أن التشجيع الذى يقدم لاستدعاء الاستثمار الخارجى، قدم بذات القدر لقطاعات الإنتاج فى الداخل لاختلفت أمور كثيرة.
• إن هناك رغبة متعجلة فى تحقيق الإنجاز. وربما كان ذلك مفهوما لأسباب سياسية. لكنه يعد نوعا من المغامرة من الناحية الاقتصادية. ومن شأن ذلك التعجل أن يحدث خللا فى ترتيب الأولويات. وقد أدرك ذلك بعض رجال الاقتصاد الذين انتقدوا فى الآونة الأخيرة فكرة الإقدام على إقامة المشروعات العملاقة، مع ما تستلزمه من جهد ومال. وقال لى أحدهم إنه لم يكن مفهوما ولامقبولا أن يكون فى البلد نحو ٧ آلاف مصنع معطل، ثم ندير ظهورنا لتلك الحقيقة المحزنة ونلجأ إلى إقامة تلك المشروعات العملاقة التى يثير الإعلام من حولها الصخب والضجيج، فى حين أنها كان ينبغى أن تكون مرتبة تالية فى أولوية الاهتمام.
• هناك غموض فى الجهات التى تطلق إشارات التفاؤل، حيث لايعرف الرأى العام شيئا عن طبيعة تلك الدوائر، كما إن أحدا لايعرف الجهات التى تتابع التنفيذ أو تحاسب على الإنجاز أو الإخفاق. وفى غيبة مؤسسات أو مجالس مستقلة تمثل المجتمع أو ذوى الخبرة فيه، فإن الأمر كله يظل متروكا للسلطة، هى التى تقرر المسار وهى التى تراقب تنفيذه. وسيظل دور المجتمع مقصورا على المشاهدة والمتابعة من خلال وسائل الإعلام التى يتحكم فيها تحالف السلطة مع رجال الأعمال وشبكة المصالح.
• إذا كان التفاؤل واجبا فإن الشفافية والمصارحة أوجب. وأذكّر فى هذا الصدد بما فعله رئيس الوزراء البريطانى ونستون تشرشل حين تولى رئاسة الحكومة أثناء الحرب العالمية الثانية وقال عبارته الشهيرة: لاأعدكم بشىء سوى الدم والدموع. إذ كان الرجل صريحا وشجاعا، ويخاطب مجتمعا يثق فى قدرته وفى وعيه. ورغم أن ثمة تصريحات تتحدث عن صعوبة المرحلة التى تمر بها مصر، إلا أن الرسالة التى تلقيناها ظلت تدعونا إلى التفاؤل والاطمئنان إلى دعم الدول الخليجية، مع استمرار المراهنة على ثقة الشعب فى القيادة وحسن نوايا السلطة، وهو المشهد الذى طرأت عليه بعض المتغيرات فى الآونة الأخيرة. سواء بعد انخفاض أسعار النفط فى الأسواق العالمية. أو بعد المراجعات التى جرت الدعوة إليها فى بعض الدول الخليجية. وفى المقدمة منها السعودية فى ظل وضعها الجديد أو الكويت التى ارتفعت الأصوات فى برلمانها داعية إلى ذلك. ولم تكن دولة الإمارات بعيدة تماما عن ذلك، على الأقل فذلك ما حدث فى تعثر مشروع المليون شقة الذى كان يفترض أن يكتمل بناؤها خلال الشهرين القادمين.
فيما خص الوعيد، فهو ملحوظ فى تصريحات رئيس الوزراء والوزراء والمحافظين الجدد. ذلك أننا صرنا نقرأ بين الحين والآخر تحذيرات بمعاقبة المقصرين وردع المخطئين ومطالبة المتقاعسين بالبقاء فى بيوتهم، ورغم أن ذلك كله يفترض أن يكون مفروغا منه، ولايحتاج إلى تعميم أو إعلان فى الصحف، إلا أن الرغبة فى تحريك الركود والإيحاء بالاستنفار لتحقيق الإنجاز المنشود، حولت ما هو بديهى إلى أخبار تبرزها وسائل الإعلام كل صباح.
لئن كانت محاسبة المقصرين وعقاب المخطئين أمرا مطلوبا. إلا أن الثغرة الأساسية فى الدعوة تتمثل فى أمرين. الأول أن مجالها يظل فى نطاق الفضاء الإعلامى الذى لايعبر بالضرورة عن الواقع المعقد. أما الثانى والأهم فإن الحساب هنا تمارسه السلطة أيضا، ولادور فيه للرقابة الشعبية، الأمر الذى يكرس عزلة المجتمع ووقوفه مما يجرى موقف المتفرج. فالسلطة هى التى تقرر وتدير وتراقب وتحاسب، الأمر الذى يعطى انطباعا بأن البلد ملك للسلطة وليس لمواطنيه.
الشروق
0 التعليقات:
Post a Comment