فكرتان تناوئان اليوم الفكرة الديمقراطية التى تعانى فى الغرب وخارجه من تراجع مصداقيتها الأخلاقية والإنسانية ومن محدودية فاعليتها المجتمعية والسياسية: التنمية السلطوية والرخاء الريعى.
أما التنمية السلطوية، فتطرحها التجربة المعاصرة للعملاق الصينى الذى يحقق منذ تسعينيات القرن العشرين وإلى اليوم معدلات مبهرة للنمو فى الناتج القومى الإجمالى ــ تتراوح بين 9 و11 بالمائة سنويا، وينجز تنمية مستديمة تعتمد على قطاعات علمية وتكنولوجية وصناعية وزراعية عالية الإنتاجية ومرتفعة القدرة التنافسية وتحسن على نحو جذرى من الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والظروف المعيشية والخدمات الأساسية لعدد هائل من البشر ــ يقترب التعداد الحالى للسكان فى الصين من مليار وأربعمائة ألف، ويطور شبكة عالمية هائلة من العلاقات الاقتصادية والتجارية تميل موازينها لصالحه ويراكم على إثرها موارد وثروات مالية غير مسبوقة فى تاريخه المعاصر، ويكتسب دوره فى جواره الآسيوى بمراكز القوة المختلفة المرتبطة باليابان وبالهند وبروسيا الآسيو ــ أوروبية نفوذا متصاعدا ويتبلور دوره العالمى فى إطار ندية كاملة مع الغرب الأمريكى والأوروبى.
غير أن تجربة العملاق الصينى، ومن هنا يأتى توصيفها كتنمية سلطوية، تستند إلى فك الارتباط على نحو شامل بين التقدم العلمى والتكنولوجى والصناعى وتنافسية اقتصاد السوق الحر وبين اعتماد القيم الديمقراطية ذات الصلة بسيادة القانون، وصون حقوق الإنسان والحريات، وتداول السلطة، وحضور حياة سياسية وحزبية تعددية.
والصين بذلك، كما بالتزامها العالمى حفظ السلم والأمن الدوليين والامتناع عن التورط فى الصراعات العسكرية والحروب المسلحة (باستثناء بعض حروب القارة الآسيوية فى أربعينيات وخمسينيات وستينيات القرن العشرين، وأوضحها حرب الكوريتين وحرب فيتنام والتدخل العسكرى الأمريكى كان مسئولا عن كليهما)، تقدم نموذجا مناوئا للفكرة الديمقراطية جاذبيته فى الفاعلية الاقتصادية والاجتماعية والتنموية، وفى التزام قيم حفظ السلم ونبذ الحروب على نحو يسمو بوضوح على التورط المتكرر للغرب الأمريكى والأوروبى الديمقراطى فى صراعات عسكرية وحروب مسلحة.
النموذج الثانى المناوئ للفكرة الديمقراطية هو الرخاء الريعى الذى يمكن، على سبيل المثال، روسيا الاتحادية بفضل عوائد النفط والغاز الطبيعى وصادرات السلاح من التحايل على أزماتها الاقتصادية والاجتماعية لبعض الوقت، ومن التورط فى انتهاكات كارثية لحقوق وحريات مواطنيها دون مواجهة إجراءات عقابية، ومن تنفيذ سياسة خارجية توسعية تجدد توق القومية الروسية لوضعية القوة العظمى ــ وإن رتبت اليوم بعد التدخل الروسى الصريح فى الأوضاع الأوكرانية بعض العقوبات الاقتصادية والتجارية المؤلمة.
يسمح الرخاء الريعى أيضا لبلدان كإيران وفنزويلا بمد شبكات الرفاه الاجتماعى لقطاعات شعبية واسعة وتعويضها بذلك جزئيا عن غياب ضمانات الحقوق والحريات، وبممارسة أدوار إقليمية وأحيانا دولية نشطة نطالعها بجلاء فى نفوذ إيران المتصاعد فى العراق وسوريا ولبنان واليمن، وفى شبكة التبعية المالية التى تفرضها فنزويلا منذ سنوات على بعض بلدان أمريكا اللاتينية.
كما يمنح الرخاء الريعى بلدان مجلس التعاون الخليجى موارد مالية هائلة: أ) تساعد على تحقيق معدلات تنمية مستديمة مرتفعة للكثافات السكانية المحدودة التى تعيش على الخليج، ب) تقدم مقلوبا للمعادلة الديمقراطية التقليدية «لا ضرائب دون تمثيل» متجسدا فى معادلة ريعية بامتياز هى «لا ضرائب ولا تمثيل، بل السلطوية للحكام والاستهلاك للشعوب»، ج) تعطيها تراكم ثروة لم تشهد لها البشرية نظيرا من قبل وتطلق يدها لممارسة أدوار إقليمية ودولية نشطة لا تتوقف كثيرا عند الالتزام بالقيم الديمقراطية، شأنها فى ذلك شأن غيرها من بلدان الرخاء الريعى التى تشكل الثروة مصدر جاذبية نموذجها وقدرته على مناوئة الفكرة الديمقراطية.
أما مصر، فلا تتوافر لها مقومات التنمية السلطوية ولا عناصر الرخاء الريعى، ويظل سبيلنا الوحيد لمواجهة أزمات السلطوية والتخلف والتطرف والإرهاب هو المزج بين البناء الديمقراطى وبين تنمية مستديمة تستند إلى شراكة المواطن والمجتمع والدولة، وتتجاوز وضعية الصراع وإهدار الطاقات والقدرات الراهنة.
غدا.. هامش جديد للديمقراطية فى مصر.
الشروق
0 التعليقات:
Post a Comment