إذن، تمكنت إيران من التوافق مع الدول الكبرى (الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الروسى والصين وبريطانيا وفرنسا وألمانيا) على «إطار» لإنهاء أزمتها النووية بإقرار حزمة مبادئ وإجراءات 1) تخضع برنامج إيران النووى لرقابة دولية شاملة لضمان طبيعته السلمية، 2) تحول بينها وبين توظيف مادة اليورانيوم المخصبة فى معاملها فى تصنيع أسلحة نووية، 3) ترفع فى المقابل العقوبات الاقتصادية والتجارية والصناعية والتكنولوجية الكثيرة التى تفرضها منذ سنوات الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبى على إيران، 4) تمهد لانفتاح سياسى ودبلوماسى «علنى» من قبل الغرب على إيران – بعد سوابق التعاون المتعددة فى الشرق الأوسط خاصة بين واشنطن وطهران، 5) تمهد أيضا لاستئناف علاقات التعاون الاقتصادى والتجارى بين الولايات المتحدة وإيران والمتوقفة عملا منذ قيام الثورة الإسلامية فى 1979، وتسمح لدول الاتحاد الأوروبى بالمزيد من التعاون مع إيران التى يحتاج اقتصادها إلى التكنولوجيا الغربية فى جميع قطاعاته الحيوية.
وبالاتفاق «الإطار»، والذى يفترض أن تنتهى الأطراف المتفاوضة من تفاصيله فى 30 يونيو 2015، تكون قد انتزعت إيران من الغرب بعد الشرق ممثلا فى الاتحاد الروسى والصين اعترافا صريحا بحقها فى امتلاك تكنولوجيا نووية سلمية، والأهم اعترافا صريحا بوضعيتها كقوة إقليمية كبرى فى الشرق الأوسط لها مصالحها المشروعة ويراد للعلاقات معها أن تنتقل من خانات التوتر والمواجهة والصراع إلى مواقع الهدوء والتنسيق والتعاون. انتزعت إيران هذا الاعتراف عبر إدارة تفاوضية طويلة المدى لأزمتها النووية أشرفت عليها وزارة الخارجية، ولم تتبدل مرتكزاتها على الرغم من تعاقب الرؤساء على الجمهورية الإسلامية، وأقنعت الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبى بأفضلية التعاون على مواصلة النهج الصراعى ــ على الرغم من معارضة الحليف الإسرائيلى ومعارضة دول الخليج العربى.
***
وفى المقابل، يستطيع الغرب أن يرى فى الاتفاق «الإطار» نجاحا تفاوضيا فى إبعاد البرنامج الإيرانى عن احتمالات العسكرة وتصنيع الأسلحة النووية، فى إبعاد الولايات المتحدة وأوروبا وإيران ومنطقة الشرق الأوسط عن خطر المواجهة العسكرية الذى لاح حين تواتر الحديث فى العاصمة الأمريكية (بين 2006 و2008) عن حتمية توجيه ضربة عسكرية للقضاء على قدرات طهران النووية ودفعت إسرائيل والدوائر المؤيدة لها فى ذات الاتجاه الكارثى، فى التوظيف الفعال لحزمة العقوبات الاقتصادية والتجارية والصناعية والتكنولوجية لإجبار إيران على قبول الرقابة الدولية الشاملة على البرنامج النووى وعلى المطالبة برفع العقوبات لتنشيط اقتصادها، فى تحديد الإطار الزمنى والشروط النهائية «للمساومة الكبرى» ــ الطبيعة السلمية للبرنامج النووى نظير رفع العقوبات.
أبدا، لم تنتزع إيران اعتراف الغرب بحقها فى امتلاك تكنولوجيا نووية سلمية وبوضعيتها كقوة إقليمية كبرى فى الشرق الأوسط فى غفلة من الزمن. بل عملت مؤسسات وأجهزة الدولة الإيرانية، والتى حافظت على تماسكها على الرغم من ظروف إقليمية ودولية قاسية بعد الثورة الإسلامية فى 1979 (الحرب العراقية الإيرانية 1980ــ1988) واستطاعت خلال العقود الماضية اكتساب حيوية واضحة على الرغم من الطبيعة السياسية المقيدة لنظام حكم الجمهورية الإسلامية وتورطه فى الكثير من انتهاكات الحقوق والحريات، وفقا لرؤى وخطط محكمة وبتركيز على الإدارة التفاوضية طويلة المدى للأزمة النووية.
استندت الدولة الإيرانية إلى مقومات قوة حقيقية تمثلت فى حشد الطاقات الداخلية للمجتمع الإيرانى لتحمل العقوبات الغربية فى إطار توافق بشأن الضرورة الوطنية التى يعبر عنها امتلاك تكنولوجيا نووية سلمية، فى تكثيف علاقات التعاون الإقليمية مع الجوار الآسيوى (آسيا الوسطى) وبعض الجوار العربى (كالعلاقات الاقتصادية والتجارية مع عمان والإمارات وقطر وغيرها) وكذلك مع الاتحاد الروسى والصين وبعض دول أمريكا اللاتينية، فى اجتذاب الأوروبيين المهتمين دوما بفرص التصدير والاستثمار فى الأسواق الخارجية لتطوير علاقات اقتصادية وتجارية مع إيران، فى صناعة صورة عالمية إيجابية عن إيران كدولة «طبيعية» مسالمة فرضت عليها الحروب الإقليمية وهى لم تكن المعتدية وتبحث عن التحرر الوطنى والتنمية المستدامة وتريد امتلاك تكنولوجيا نووية سلمية لأهداف تنموية مشروعة وعازمة على الابتعاد عن الأسلحة النووية على الرغم من حضور باكستان المسلحة نوويا فى جوارها المباشر وإسرائيل المسلحة نوويا فى جوارها الإقليمى. وخلال العقود الماضية، وخاصة فى السنوات الأخيرة، أدارت الدولة الإيرانية أزمتها النووية على جميع هذه الصعد بكفاءة مشهودة.
***
وعلى الأرض فى جوارها الآسيوى وفى منطقة الشرق الأوسط، تمكنت الدولة الإيرانية من الإفادة من مجمل تغيرات السنوات الأخيرة لتوسيع مساحات نفوذها وبناء شبكات تحالف مركبة ومراكمة أوراق متنوعة للضغط على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى للاعتراف بوضعيتها كقوة إقليمية كبرى.
أفادت إيران من سقوط نظام طالبان فى أفغانستان ومن الاحتلال الأمريكى للعراق على نحو حيد التهديد الذى شكله تطرف طالبان على أمنها إلى الشرق منها وسمح لها بتحويل العراق إلى الغرب منها إلى مساحة لنفوذها باستغلال الورقة المذهبية، وكذلك أفادت من الورقة المذهبية فى علاقتها مع نظام بشار الأسد فى سوريا وحزب الله فى لبنان والحوثيين فى اليمن واكتسبت فى هذه المواقع نفوذا متصاعدا يتجاوز نفوذها التاريخى فى منطقة الخليج.
وظفت الدولة الإيرانية العديد من أدوات السياسة الخارجية لتوسيع مساحات نفوذها وبناء شبكات التحالف فى جوارها، من التدريب العسكرى والتسليح والتمويل لحلفائها عبر حرسها الثورى والدبلوماسية النشطة للدفاع عن مصالحهم إلى تجنب الاصطدام المباشر بالغرب أو بإسرائيل أو بدول عربية مناوئة لها كالعربية السعودية وإلى تجنب التورط المباشر فى حروب أو صراعات عسكرية – بل تعاونت مؤسسات وأجهزة الدولة الإيرانية مع الولايات المتحدة حين غزت أفغانستان لإسقاط نظام طالبان وحين احتلت العراق وفتت دولته الوطنية.
ومن العراق وسوريا إلى لبنان واليمن، اعتمدت سياسة إيران على تفريغ فكرة الدولة الوطنية الحديثة ومجتمع الحقوق المتساوية فى هذه البلدان من المضمون، وعلى استثمار الورقة المذهبية مستغلة الشقاق الأهلى وتواريخ الظلم والاضطهاد الطويلة التى راكمتها حكومات عربية مستبدة وفاشلة، ومستغلة أيضا تورط بعض الحكام العرب فى توظيف معكوس الاتجاه للمذهبية (أحاديث بعض المسئولين العرب عن الهلال الشيعى وغيرها).
ثم وظفت الدولة الإيرانية مساحات النفوذ الإقليمى هذه ــ وهى جعلتها بجانب دورها الأصيل فى الخليج صاحب الأهمية الاستراتيجية والاقتصادية القصوى للغرب وللسياسة الدولية حاضره فى مناطق تماس مع الصراع العربى ــ الإسرائيلى والقضية الفلسطينية وفى مدخل البحر الأحمر لجهة باب المندب ورفعتها من ثم إلى مصاف الفاعل الذى لا يمكن إقصاؤه من ترتيبات السلم والأمن فى الشرق الأوسط ــ فى الإدارة التفاوضية لأزمتها النووية ولعلاقتها مع الغرب على نحو جعل من الاعتراف بحقها فى امتلاك تكنولوجيا نووية سلمية ومن وضعيتها كقوة إقليمية تسليما بواقع على الأرض يستحيل تجاهله.
***
وبينما تتمكن الدولة الإيرانية من كل ذلك ــ وتبدو هنا كالدولة المسالمة الباحثة عن التنمية المستدامة والتكنولوجيا المتقدمة وهناك كالدولة المتلاعبة بالورقة المذهبية وبخطوط الصراع التقليدية فى جوارها الآسيوى وفى الشرق الأوسط، لا نقدم نحن العرب إلى إقليمنا وإلى العالم غير مشاهد حروب الكل ضد الكل العبثية وجنون الإرهاب وقسوة تفتت الدول الوطنية وانهيار السلم الأهلى للمجتمعات وكارثة النزوع اللانهائى للتورط فى صراعات طائفية ومذهبية وقبلية وتراكم انتهاكات الحقوق والحريات وكأننا نبحث عن تجديد ظلامية القرون الوسطى التى لم تكن فى الأصل لنا.هذه هى الحقائق، فدعونا لا نتجاهلها إن أردنا الخروج من ظلامية واقعنا العربى المعاصر.
الشروق
0 التعليقات:
Post a Comment