«لا تتراجعوا عن الدفاع عن الحريات الشخصية وحقوق المرأة ولا تهادنوا فى الدستور فقد كان هذا الخطأ الأكثر فداحة الذى ارتكبناه فى إيران بعد الثورة وبه مهدنا لديكتاتورية الجمهورية الإسلامية»، هذه كانت النصيحة التى تلقيتها من أستاذ الفلسفة السياسية الإيرانى على شيرازى المتنقل منذ ١٩٨٢ بين ألمانيا والولايات المتحدة وصاحب كتب عديدة عن القضية الدستورية والديمقراطية والحريات فى إيران.
نصيحة الأستاذ شيرازى، الذى التقيته أول من أمس ببرلين على هامش عزاء أستاذى وزميلنا المشترك فريدمان بيتنر، لم تترك ذهنى للحظة منذ أن قالها ولم يهدأ إلى الآن سيل الأسئلة المتدافع من بين ثناياها. هل تراجع الليبراليون بالفعل عن التبنى الصريح للحريات الشخصية والدفاع عن المرأة وحقوقها؟ هل أخذنا خطوات إلى الوراء وتلون خطابنا السياسى والمجتمعى إزاء ضغط الإسلام السياسى وقوته المتصاعدة وبتنا نتحدث بين السطور فى قضايا الحريات والحقوق؟ هل هادنا ونحن نرى مساحات الفعل السياسى بالمؤسسات (رئاسة ومجلس شورى وجمعية تأسيسية) وبالشارع يسيطر عليها الإخوان والسلفيون وبقية التيارات الإسلامية؟ هل أخافتنا حملات الإساءة المستمرة لجيوش «أنا مش إخوان، لكن..» الإلكترونية وعلى شاشات قنوات التطرف المسمى بالدينية وفى الشارع بوقفات تأييد الرئيس التى لا تنتهى؟ هل افتقدنا القدرة على المبادرة والضغط الفكرى والسياسى للدفاع عن ضمانات الحريات والحقوق بالدستور وصار جل عملنا مقتصراً على المطالبة بالابتعاد عن بعض الصياغات الدستورية الصادمة ونحن نتابع أعمال جمعية تأسيسية غير متوازنة؟
وبينما كانت نصيحة الأستاذ شيرازى تدفع لذهنى بسيل الأسئلة الصعبة هذا، كنت أتابع تداعيات تغريدات كتبتها على خلفية أحداث السفارة الأمريكية بالقاهرة وبها انتقدت غياب العقلانية والمسئولية عن فعل الإسلاميين الذين برروا للعنف بتحميلهم الحكومة الأمريكية مسئولية فيلم تافه لا تتحمل مسئوليته وتلاعبوا بمشاعر شعبية صادقة برفع مطالب غير واقعية (على الحكومة الأمريكية منع الفيلم ومعاقبة المشاركين به وهى لا تملك قانونياً ذلك) وإنتاج خطاب تهييج وإثارة أساء للإسلام وللرسول ولنا جميعاً. لم يستوقفنى هجوم المخالفين وجيوش «أنا مش إخوان، لكن..»، بل كانت تعليقات ومكالمات أصدقاء حملوا لى نصيحة عدم التصعيد والابتعاد عن معاداة الإسلام السياسى ومن ثم عدم مواجهة جماهيره هى التى هالتنى. ألهذا الحد أصبحنا نتخوف من تسمية الأمور بمسمياتها وتحميل المسئولية الأخلاقية والسياسية لأحزاب وأطراف تلاعبت وتتلاعب بالشارع المصرى، إن فى أحداث السفارة أو غيرها؟ ألهذا الحد بات النقد الصريح لعقلانية غائبة، لاحظها العالم أجمع ولا أستثنى الأغلبيات العاقلة فى المجتمعات الإسلامية، مصدراً لخطر مواجهة مع جماهير الإسلام السياسى وقياداته؟ ألهذا الحد تراجعنا وأضحى مجرد رفض العنف والتطرف بطولة ذات تداعيات خطيرة؟ وإن كان هذا حالنا اليوم، فهل نقوى بالفعل على الدفاع عن الحريات والحقوق أم إن تراجعنا صار حتمياً وحديث ما بين الأسطر هو غاية أمانينا؟
مراجعة سريعة لنقاشنا العام حول الدستور والحريات وتقلبات الشارع تدلل على تراجع الليبراليين بالفعل وغياب الوضوح السياسى والصرامة الفكرية عن الكثير مما نقول ونكتب. بتنا نزن كلماتنا طويلاً ونبحث عن صياغات لغوية مركبة عوضاً عن الخطاب المباشر، متى طالع المصريات والمصريون منا صياغات كهذه: نرفض خلط الدين بالسياسة، لا نقبل تقييد الحريات الشخصية ولا الانتقاص من حقوق المرأة، سندعو المصريات والمصريين للتصويت بـ«لا» على الدستور الجديد إن تضمن نصوصاً تجعل من الأزهر سلطة فوق السلطات العامة أو لم يتضمن حماية لحيادية مؤسسات الدولة وأجهزتها، نرفض ازدراء الأديان إلا أن مواجهته حين يقوم به متطرفون ليست بتقييد حرية التعبير عن الرأى بل بنشر خطاب مستنير يحترم الأديان ومقدساتها، كل مقدساتها.
يبدو أنك على حق يا أستاذ شيرازى، ويبدو أن الأهم لليبرالية فى مصر اليوم هو الخروج من مصيدة التراجع وحديث ما بين الأسطر خوفاً من الإسلام السياسى وجمهوره.
0 التعليقات:
Post a Comment