محاولة استخدام المنطق لعلاج مشكلات مجتمع لا يعترف بالمنطق هى محاولة غير منطقية فى حد ذاتها، كما أن محاولة استخدام العلم لعلاج مشكلات مجتمع لا يعترف بالعلم هى محاولة غير علمية فى حد ذاتها.. لماذا؟
لأن العلم لا يعيش إلا فى مجتمع يحترمه أو على الأقل يعرف أن له دورا فى تحسين ظروف أبنائه، ولو سادت بين الناس ثقافة لا تحترم العلم ولا تعرف له قيمة مباشرة فى خدمتهم، فإن العلم، وأهله، سيرحلون عنهم.
لا أخشى عظم التحديات، ولكن أخشى تبديد القدرات.
لا أنسى قصة طريفة لكن لها دلالة شديدة حين احتجت أن أصلح سيارتى، فذهبت إلى صديقى محمد الميكانيكى الذى كان يدرس معى فى المرحلة الإعدادية واختار أن يترك التعليم وأن يلتحق بمهنة أسرته، وأنا قررت أن أستمر فى الدراسة إلى أن عملت فى الجامعة معيدا. وذات يوم احتجت لصديقى الميكانيكى لإصلاح عيب فى السيارة، وبعد شىء من الجهد أصلحه وذهبنا معا لنجرب السيارة بعد إصلاحها. ولأننى كنت مشغولا بمتابعة صوت السيارة بعد إصلاحها؛ لا أتذكر بدقة كافية كيف سار الحوار إلى هذه النقطة التى سألنى فيها صديقى الميكانيكى: «وإنت بتشتغل إيه؟».
فكانت الإجابة أننى أعمل بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية. ثم أتبع متسائلا: «يعنى بتبيع إيه يعنى؟».
وفى ظل انشغالى بالاستماع لصوت السيارة، قلت له دون تبسيط كاف كلاما من قبيل: أدرس إدارة شئون الدولة وقضايا الحكم والديمقراطية وترشيد عملية صنع القرار السياسى. وطبعا ما كان ينبغى أن أستخدم هذه المفردات فى الإجابة لعلمى أن صديقى توقف عمليا عن القراءة إلا فيما يتعلق بشئون كرة القدم.
وفجأة سألنى سؤالا لم أكن أتوقعه: «إنت سيارتك عطلت فأتيت لى كى أصلحها، أنا لمّا يحصل إيه أذهب إليك؟»، فكانت إجابتى: «إنك غالبا لن تحتاج لى بهذا المعنى!»، وقبل أن أنتهى من توضيح فكرتى بادرنى بالاستنتاج الذى وصل إليه: يعنى «ما لكش لازمة» (أى لا حاجة لى عندك)!
وعلى الرغم من أن الإجابة صادمة لكنها تعكس منطقا خدميا بالأساس. هو يريد خدمة مقابل خدمة وإلا فالعلم لا قيمة له عنده بنفس منطق الطلبة المشاغبين الذين استنتجوا أن «العلم لا يكيل بالباذنجان» على سبيل السخرية من مقولة تنسب إلى فيلسوف مسلم كبير اسمه الفارابى والذى اعتبر أن تحصيل العلم هو المصدر الأكبر للسعادة ولو عليه أن يختار بين العلم والمال، لاختار العلم لأنه لا يمكن أن يُقدّرَ بالمال.
إذن نحن أمام مواقف عديدة يمكن أن يتبناها الإنسان بين هذين النقيضين: إما منطق الفارابى وإما منطق بهجت الأباصيرى.
لا أخشى عظم التحديات، ولكن أخشى تبديد القدرات.
ومن يتأمل أحوال مصر يجد أن تقدير العلم والعلماء فيها هو مسألة تسجيل موقف أو رفع عتب أو كلمات تقال بلا سند من ثقافة تحترم أهل العلم بحق وهذا هو سبب رحيلهم المتتابع عن مصر أو انشغال الكثير منهم بعمل خاص قد لا يكون للعلم فيه نصيب كبير وكأن المجتمع المصرى يتحول تباعا إلى مدرسة مشاغبين كبيرة. والمشكلة أن العقل الذى لا يحترم العلم ولا يقدر أهله يفتح المجال مباشرة للخرافة والفهلوة والعشوائية والتخبط. وكلها آفات تزرع فى العقل جرثومة التخلف.
لا أخشى عظم التحديات، ولكن أخشى تبديد القدرات.
ولا يخفى على حضراتكم أن باحثين كثيرين اجتهدوا فى كيفية إخراج الجمعية التأسيسية للدستور بل والدستور نفسه إلى دائرة النور على هدى خبرات دول كثيرة مرت بما نمر به، وبعضها واجه صعوبات جمة يمكن للعين الدارسة أن ترصدها وأن تبتكر أدوات وآليات يمكن من خلالها تجنب الوقوع فيها. وقد ظننت ومعى باحثون واعدون أننا يمكن أن نضيف إلى عملية صنع القرار السياسى فى مصر شيئا من المنطق وبعضا من العلم عسى أن نساعد هؤلاء فى ألا يرفعوا كلفة قيادتهم لنا. ولكن هيهات، لا بد أن نتعلم بتكلفة عالية للغاية. لا أقول إنه لا أمل، ولكن أقول إن التكلفة عادة مبالغ فيها. وقد قلت ذات مرة مازحا لقد أنتجنا نموذج «المصرى القنفذ» أى المصرى الذى يكسوه «الشوك» ومن ثم «التشكك» وهى آفة نفسية وذهنية أخرى تنال من أى فرصة للتفكير المنطقى لأن كل فعل أو مبادرة للتقدم لا يُنظر إليها باعتبارها محاولة لرأب الصدع أو خطوة من أجل الفعل المشترك وإنما ينظر إليها على أنها محاولة لتغليب المصالح الشخصية أو الحزبية على الصالح العام.
لا أخشى عظم التحديات، ولكن أخشى تبديد القدرات.
ألا تتذكرون رواية «قنديل أم هاشم» التى صور فيها يحيى حقى صراع العلم مع الخرافة؟ فالدكتور إسماعيل ذهب إلى الغرب ليتعلم طب العيون وعاد إلى بيئته التى اعتادت على علاج أمراض العيون بزيت القنديل، قنديل أم هاشم، تبركا وأملا فى الشفاء. وهنا كان الصراع بين مصدرين من مصادر المعرفة: العقل ممثلا فى العلم والدراسة الأكاديمية، والمجتمع متمثلا فى الخرافة والأساطير. وقد اصطدم العلم بالخرافة، وكاد الدكتور إسماعيل يفقد حياته ظنا من العامة أنه خرج عن الدين لرفضه استخدام زيت القنديل فى علاج مرضاه ووصفه له بأنه خرافة ودجل. لكن العالم الحق حكيم يعرف أن من واجبات العلم أن يستوعب الخرافة ليقضى عليها.
وقد فعلها بطل «قنديل أم هاشم» بأن وضع العلاج الطبى السليم فى زجاجات تشبه الزجاجات التى كان يضع فيها المخرفون زيت القنديل وأوهم الناس، أو هكذا فعل، أنه يعالجهم بزيت القنديل. وحينما اطمأن الناس له، وللعلم الذى أتى به وللعقل الذى يمثله، كان عليه أن يصارحهم بأن علاجه الموضوع فى زجاجة الزيت ما هو إلا نتاج العلم والطب والمعرفة، وهكذا فإن للعلم بيئته التى تحترم العقل، فمحاولة استخدام العلم فى علاج مشكلات مجتمع لا يحترم العلم، هى محاولة غير علمية بل وغير عقلانية فى حد ذاتها. لذا فأنا لا أخشى عظم التحديات، ولكن أخشى تبديد القدرات.
إذن فالعقل كمصدر للمعرفة ينبغى أن يقود المجتمع، لكنه لن يفعل إلا إذا حكم وساد وسيطر على أجهزة الدولة والمجتمع معا حتى يواجه قرونا من الخرافة والغيبيات والأساطير اللاإيمانية.
لقد تراجع العلم والتفكير العلمى بشدة فى مجتمعنا وأصبحنا أمام غلبة لأى حد يقول أى حاجة بلا أى مرجعية إلا نفسه. وقد كنت أظن أن الحزب الوطنى أفسد المصريين، وأن تغيير النخبة الحاكمة سيفتح الطريق أمام التفكير العلمى. ولكن العشوائية التى تدار بها مصر لعدة عقود على الأقل تؤكد أمرا أصبح من المسلمات بالنسبة لى وهو أن المجتمع المصرى وكأنه عمل حادثة ففقد جزءا كبيرا من أهليته للقياس النظرى السليم، ناهيك عن التفكير المنطقى السليم.
إن أهل العلم والثقافة مهما تعلموا واطلعوا فهم يعيشون فى ظل مجتمع معاد للعلم، مع الأسف، وتسيطر عليه ثقافة «تعالى نجرب، هو حد فاهم حاجة». الحقيقة أننى اعتقدت فى مرحلة ما من حياتى أننى ربما أستطيع أن أساعد مصر والمصريين، ولكننى بمرور الوقت أصبحت أستشعر أننى أقرب إلى قول الشاعر:
نهايةُ إقدامِ العقولِ عقالُ.. وآخرُ سعى العالمين ضلالُ
وليس لنا من علمنا سوى.. أن جمعنا فيه قيل وقالوا
وكم من جبال قد علا شرفاتها.. .رجالٌ، فبادوا والجبال جبال
لا أخشى عظم التحديات، ولكن أخشى تبديد القدرات، ونحن نبددها.
أزعم أن وجود دستور بدرجة معقولة من التوافق أفضل من لا دستور على الإطلاق.
أزعم أن دستورا مرحليا لمدة عشر سنوات أفضل من لا دستور على الإطلاق.
أزعم أن انتخابات تشريعية تنتج حكومة متجانسة حزبيا أفضل من حكومة تكنوقراطية لأن النجاح والفشل فى الحكومات المتجانسة حزبيا هو نجاح وفشل جماعى، لكن فى حكومة التكنوقراط يكون النجاح فرديا والفشل فرديا.
أزعم أن عقد إجراءات سريعة مع المستثمرين والمتخصصين من أجل تبنى تصور شامل للتنمية فى مصر أفضل من أن تحكمنا العشوائية.
أزعم أننا نواجه تحديات تشبه ما تواجهه مجتمعات أخرى، ولكن ما يقلقنى أن النجاح فى مواجهة هذه التحديات يقتضى رؤية متكاملة تجمع الخمسة قاف: (قيادة، قرار، قيم، قانون، قواعد).. أو هكذا يقول العلم والمنطق. وعموما لو لم ينفع العلم والمنطق، فـ«مدد يا أم هاشم مدد».
0 التعليقات:
Post a Comment