.. وبجانب ما ينتجه التوظيف المتصاعد لثنائية الدين والسياسة فى مصر من تناقضين مركزيين مع الديمقراطية والمواطنة وتداول السلطة يتمثلان فى وزن متضخم للهوية الدينية والقضايا القيمية والأخلاقية وهامشية شديدة للنقاش حول مضامين وتفاصيل السياسات العامة، يتصل التناقض السياسى الثالث بحقيقة أن ثنائية الدين والسياسة تضفى طابعا شديد الحدية على نقاشات وتفاعلات الأحزاب والقوى والجماعات الموظفة لها وتحول لدى المواطنات والمواطنين المتلقين دون تبلور قبول التعددية والرأى الآخر ورفض الإقصاء والاستبعاد (فيما لا سند قانونيا لإقصائه أو استبعاده) كمكونات أصيلة للسياسة المعتمدة على الديمقراطية والمواطنة وتداول السلطة. باسم الدين وبتوظيف لمقولات مساعدة كالاستقرار وتحقيق الرخاء واحترام الإرادة الشعبية، يُدعى المواطن إلى التصويت بـ«نعم» فى الاستفتاءات الدستورية، ويصبح من ثم المواطن المصوت بـ«لا» مخالفا للدين ولصحيحه ويصعب للغاية قبوله أو احترام حقه الديمقراطى فى الاختيار الآخر. باسم الدين وبتوظيف لذات المقولات المساعدة، يدعى أحيانا للتظاهر وللحراك الشعبى لمواجهة الليبراليين واليسار الذين يعرفون هنا بتناوب إما كأعداء للإسلام وللشريعة أو كمتآمرين على الرئيس الشرعى الحامل «للمشروع الإسلامى» أو كمستقوين بالخارج ضد الهوية الدينية. باسم الدين وبتوظيف لذات المقولات المساعدة، يدعى فى أحيان أخرى إلى عدم التظاهر والتفرغ للعمل وتحقيق الاستقرار فى مواجهة تظاهر الليبراليين واليسار الذين يتحولون هنا إلى مبررين للعنف وفوضويين ومخربين. لدى المواطنات والمواطنين الخاضعين لسيطرة أو لتأثير الأحزاب والقوى والجماعات الموظفة لثنائية الدين والسياسة، يترجم مثل هذا الطابع شديد الحدية فى تعريف وتصنيف المنافسين (أو حتى الخصوم) السياسيين إلى تكفير وتخوين وإقصاء واستبعاد وممارسة العنف اللفظى وأحيانا المادى إزاءهم. أما الحياة السياسية فتجرد من مكونات قبول التعددية والرأى الآخر ويتعمق تناقضها مع مسارات بناء الديمقراطية والمواطنة وتداول السلطة.
ثم يأتى تناقض رابع يتعلق بتشوه بنيوى يصيب الحياة السياسية المصرية من جراء التوظيف المتصاعد لثنائية الدين والسياسة على يد خليط غريب من الأحزاب والقوى والجماعات المنتمية لليمين الدينى والتى تستبيح الحدود الفاصلة بين العمل السياسى من جهة والعمل الدعوى والتربوى والأهلى من جهة أخرى. والتشوه البنيوى الذى أعنيه هنا هو غياب اقتصار العمل السياسى على أحزاب وقوى تتنافس على التأييد الانتخابى للمواطنات وللمواطنين بطرح الأفكار والرؤى والسياسات وتبنى قواعدها الشعبية ورأسمالها الاجتماعى والرمزى بالكفاءة والفاعلية والنزاهة والشفافية وتتسق بهذا مع مسارات بناء الديمقراطية والمواطنة وتداول السلطة. والنتيجة المرحلية هى استسهال أحزاب وقوى اليمين الدينى التعويل على الجماعات المرتبطة وعلى أنشطتها الدعوية والتربوية والأهلية لبناء القواعد المؤيدة وحصد الأصوات فى الانتخابات، عوضا عن العمل الحزبى المستقل والمنظم. بل إن المفارقة التى من المهم التدبر بمعانيها وتداعياتها المحتملة هى أن جماعة الإخوان المسلمين التى نجحت ولعقود طويلة من مواقع المعارضة فى بناء رأسمال اجتماعى لعملها السياسى معتمدة على الشفافية والنزاهة والكفاءة فى مواجهة نظام حاكم فاسد وفاشل، تفقد اليوم وبعد أن أسست حزبا سياسيا وانتقلت إلى مواقع الحكم، الكثير من رأسمالها مع غياب الشفافية والنزاهة ومحدودية كفاءتها.
أخيراً، يتعين الإشارة إلى تناقض خامس مع مسارات بناء الديمقراطية والمواطنة وتداول السلطة ترتبه ثنائية الدين والسياسة وتآكل قدرة مجتمعنا على ضبط العلاقة بين مكونيها، الطبيعة الرجعية المتزايدة للحياة السياسية. مكونات الرجعية هذه بادية بوضوح فى اضطرار العدد الأكبر من الأحزاب والقوى الليبرالية واليسارية إلى تبرير مواقفها وتفسيرها للرأى العام موظفة للرمزية الدينية ولمقولات ترتكن إلى الهوية الدينية والمنظومات القيمية والأخلاقية. مكونات الرجعية هذه بادية بوضوح فى عدم تمكن الكثير من ممارسى السياسة المنتمين لليبرالية واليسار من تبنى مبدأ المساواة الكاملة بين المرأة والرجل وترجمته إلى مطالبة باعتماد قوانين وسياسات تضمنها وتطبق التمييز الإيجابى لصالح المرأة للتعامل مع واقع التمييز ضدها. مكونات الرجعية هذه بادية بوضوح ارتباك مواقف الأحزاب والقوى الليبرالية واليسارية إزاء المؤسسة الدينية الرسمية (الأزهر الشريف) واستعداد البعض لقبول دور تشريعى وسياسى لها (مسألة الصكوك الإسلامية) وليس فقط دور مجتمعى عام (وثيقة نبذ العنف). مكونات الرجعية هذه بادية بوضوح فى تردد الليبراليين واليسار فى مواجهة صناعة التطرف وكراهية الآخر القبطى التى تنتج فى مجتمعنا المزيد من العنف والتوترات الطائفية وتهدد مواطنة الحقوق المتساوية بقوة، خوفا من أن يحمل عليهم من قبل ماكينة اليمين الدينى الجاهزة دوما للتكفير والتخوين. مكونات الرجعية هذه بادية بوضوح فى انهيار قدرة الرأى العام المصرى على إدارة نقاش ضرورى حول تحديث قوانين الأحوال الشخصية والأسرة، بل إن ثمة ردة واضحة تدلل عليها المحاولات المتكررة لتغيير قانون الخلع وقوانين حضانة الأطفال الضامنة لحقوق المرأة. مثل هذه الطبيعة الرجعية للحياة السياسية تتعارض مع مسارات بناء الديمقراطية والمواطنة وتداول السلطة وجميعها يعيش على الحيوية المجتمعية المتجاوزة للخطوط الحمراء والبحث المستمر عن الجديد وغير التقليدى والقدرة المتصاعدة على تعميق المساواة فى المجتمع.
0 التعليقات:
Post a Comment