بجانب التناقضات المرحلية مع مبادئ الديمقراطية ودولة المواطنة التى تحدثها ثنائية الدين والسياسة فى الإطار الدستورى والقانونى لمصر بعد الثورة، ثمة مجموعة أخرى من التناقضات ذات الطبيعة السياسية التى يحدثها التوظيف المستمر للثنائية هذه من قبل أحزاب وقوى وجماعات متصارعة وتباعد فى التحليل الأخير بيننا وبين مسارات ناجحة لبناء الديمقراطية والمواطنة وتداول السلطة.

يرتبط التناقض السياسى الأول هنا بالوزن المتضخم خلال العامين الماضيين للهوية الدينية والقضايا القيمية والأخلاقية ومتقابلات «الحلال والحرام» فى السياسة، على نحو يباعد جزئيا بين الاختيارات التصويتية للمواطنات وللمواطنين فى الاستفتاءات والانتخابات ومضامين تقييمهم لأداء السلطتين التشريعية والتنفيذية وحدود القبول والرفض للسياسات العامة المطبقة وبين دوائر الإدراك العقلانى والرشيد (والعقلانية والرشادة هما خاصيتان نسبيتان بكل تأكيد) المستند إلى معلومات وتفضيلات بعضها قيمى وأخلاقى وبعضها الآخر لا شك وثيق الصلة بالقناعات السياسية والمصالح الاقتصادية والاجتماعية والحقوق والحريات الشخصية. يتحول التصويت بنعم فى استفتاء على التعديلات الدستورية أو استفتاء على الدستور إلى تصويت مع الدين وللإسلام ومن ثم الحلال الوحيد، والتصويت بـ«لا» لحرام بيّن وفعل قوى وشخصيات معادية للإسلام. يختزل السلوك التصويتى فى الانتخابات البرلمانية والرئاسية فى ثنائية مع الهوية الدينية الإسلامية أو ضدها، وتحل ذات الثنائية محل التقييم المعلوماتى والموضوعى لأداء الرئيس المنتخب وحكومته ولأداء حزبه وأحزاب اليمين الدينى الأخرى فى تأسيسية الدستور ومجلس الشورى. وبذلك يصبح تأييد الرئيس المنتمى لجماعة الإخوان المسلمين واجبا دينيا حتى بين القطاعات الشعبية المتضررة من سياساته النيوليبرالية من عمال وفلاحين وأسر محدودة الدخل وبين النساء المتضررات من السياسات الرجعية وغياب ضمانات المساواة والحقوق والحريات. وفى المقابل، تصنف معارضة الرئيس المنتخب إن بسبب الانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان أو للتداعيات السلبية للسياسات المتبعة أو لغياب الشفافية فى ظل وجود رئيس وحزب وجماعة على أنها عداء للإسلام و«للمشروع الإسلامى» (بغض النظر عن المعنى المحدد للمشروع هذا) وخروج على القيم والأخلاق القويمة.

أما التناقض السياسى الثانى مع المسارات الناجحة لبناء الديمقراطية والمواطنة وتداول السلطة فيتمثل فى الهامشية الشديدة للنقاش حول مضامين وتفاصيل السياسات العامة المطبقة أو المراد تطبيقها، خاصة إذا ما قورنت بنقاشات الهوية الدينية والقيم والأخلاق ومتقابلات الحلال والحرام.

طوال العامين الماضيين، رددت قيادات الأحزاب السياسية فى اليمين الدينى وفى المساحات الليبرالية واليسارية مرارا مفاهيم العدالة الاجتماعية والعقد الاجتماعى والعدالة الانتقالية والتنمية المتوازنة وسياسات العمل والتأمينات والضرائب العادلة، وعلى الرغم من ذلك لم يعرض على الرأى العام المصرى المحدد والمفصل من الخطط لتطبيق هذه المفاهيم. ليس هذا فقط، فمن جهة يقع الرئيس المنتخب وحكومته وحزبه فى محظور الاستعلاء على المصريات والمصريين بالامتناع عن طرح رؤيتهم الحقيقية للقضايا الاقتصادية والاجتماعية وتفسير دوافع سياساتهم (من التعديلات الضريبية إلى مشروع إقليم قناة السويس) والتعامل بشفافية مع سياسات الاقتراض الخارجى. ومن جهة أخرى، تقع المعارضة الليبرالية واليسارية فى محظور التعميم والشعبوية وغياب الطرح البديل حين ينتقدون سياسات الرئيس وجماعة الإخوان. تستغرق النقاشات التى تنتجها ثنائية الدين والسياسة جل طاقة الأحزاب، ويجد بها اليمين الدينى دوما فرصة سهلة لتحقيق نتائج جيدة فى صناديق الاقتراع أو لتعبئة الحراك الشعبى أو للسيطرة السلطوية على الشارع بتهدئته. والنتيجة المرحلية هى، مجددا، حياة سياسية تحد وبعمق من قدرة المواطنات والمواطنين على ممارسة الاختيار الديمقراطى فى إطار من الإدراك العقلانى والرشيد لغياب المعلومات والشفافية ولمحدودية النقاش التفصيلى.

ويتصل التناقض السياسى الثالث بحقيقة أن ثنائية الدين والسياسة تضفى طابعا شديد الحدية على نقاشات وتفاعلات الأحزاب والقوى والجماعات الموظفة لها وتحول لدى المواطنات والمواطنين المتلقين دون تبلور قبول التعددية والرأى الآخر ورفض الإقصاء والاستبعاد (فيما لا سند قانونيا لإقصائه أو استبعاده) كمكونات أصيلة للسياسة المعتمدة على الديمقراطية والمواطنة وتداول السلطة.

باسم الدين وبتوظيف لمقولات مساعدة كالاستقرار وتحقيق الرخاء واحترام الإرادة الشعبية، يُدعى المواطن إلى التصويت بنعم فى الاستفتاءات الدستورية، ويصبح من ثم المواطن المصوت بلا مخالفا للدين ولصحيحه ويصعب للغاية قبوله أو احترام حقه الديمقراطى فى الاختيار الآخر. باسم الدين وبتوظيف لذات المقولات المساعدة، يُدعى أحيانا للتظاهر وللحراك الشعبى لمواجهة الليبراليين واليسار الذين يعرفون هنا بتناوب إما كأعداء للإسلام وللشريعة أو كمتآمرين على الرئيس الشرعى الحامل «للمشروع الإسلامى» أو كمستقوين بالخارج ضد الهوية الدينية.

باسم الدين وبتوظيف لذات المقولات المساعدة، يُدعى فى أحيان أخرى إلى عدم التظاهر والتفرغ للعمل وتحقيق الاستقرار فى مواجهة تظاهر الليبراليين واليسار الذين يتحولون هنا إلى مبررين للعنف وفوضويين ومخربين.

لدى المواطنات والمواطنين الخاضعين لسيطرة أو لتأثير الأحزاب والقوى والجماعات الموظفة لثنائية الدين والسياسة، يترجم مثل هذا الطابع شديد الحدية فى تعريف وتصنيف المنافسين (أو حتى الخصوم) السياسيين إلى تكفير وتخوين وإقصاء واستبعاد وممارسة العنف اللفظى وأحيانا المادى إزاءهم.. أما الحياة السياسية فتجرد من مكونات قبول التعددية والرأى الآخر ويتعمق تناقضها مع مسارات بناء الديمقراطية والمواطنة وتداول السلطة.

ثم يأتى تناقض رابع يتعلق بتشوه بنيوى يصيب الحياة السياسية المصرية من جراء التوظيف المتصاعد لثنائية الدين والسياسة على يد خليط غريب من الأحزاب والقوى والجماعات المنتمية لليمين الدينى والتى تستبيح الحدود الفاصلة بين العمل السياسى من جهة والعمل الدعوى والتربوى والأهلى من جهة أخرى. والتشوه البنيوى الذى أعنيه هنا هو غياب اقتصار العمل السياسى على أحزاب وقوى تتنافس على التأييد الانتخابى للمواطنات وللمواطنين بطرح الأفكار والرؤى والسياسات وتبنى قواعدها الشعبية ورأسمالها الاجتماعى والرمزى بالكفاءة والفاعلية والنزاهة والشفافية وتتسق بهذا مع مسارات بناء الديمقراطية والمواطنة وتداول السلطة. والنتيجة المرحلية هى استسهال أحزاب وقوى اليمين الدينى التعويل على الجماعات المرتبطة وعلى أنشطتها الدعوية والتربوية والأهلية لبناء القواعد المؤيدة وحصد الأصوات فى الانتخابات، عوضا عن العمل الحزبى المستقل والمنظم. بل إن المفارقة التى من المهم التدبر بمعانيها وتداعياتها المحتملة هى أن جماعة الإخوان المسلمين التى نجحت ولعقود طويلة من مواقع المعارضة فى بناء رأسمال اجتماعى لعملها السياسى معتمدة على الشفافية والنزاهة والكفاءة فى مواجهة نظام حاكم فاسد وفاشل، تفقد اليوم وبعد أن أسست حزبا سياسيا وانتقلت إلى مواقع الحكم الكثير من رأسمالها مع غياب الشفافية والنزاهة ومحدودية كفاءتها.

أخيراً، يتعين الإشارة إلى تناقض خامس مع مسارات بناء الديمقراطية والمواطنة وتداول السلطة ترتبه ثنائية الدين والسياسة وتآكل قدرة مجتمعنا على ضبط العلاقة بين مكونيها، الطبيعة الرجعية المتزايدة للحياة السياسية. مكونات الرجعية هذه بادية بوضوح فى اضطرار العدد الأكبر من الأحزاب والقوى الليبرالية واليسارية إلى تبرير مواقفها وتفسيرها للرأى العام موظفة للرمزية الدينية ولمقولات ترتكن إلى الهوية الدينية والمنظومات القيمية والأخلاقية. مكونات الرجعية هذه بادية بوضوح فى عدم تمكن الكثير من ممارسى السياسة المنتمين لليبرالية واليسار من تبنى مبدأ المساواة الكاملة بين المرأة والرجل وترجمته إلى مطالبة باعتماد قوانين وسياسات تضمنها وتطبق التمييز الإيجابى لصالح المرأة للتعامل مع واقع التمييز ضدها. مكونات الرجعية هذه بادية بوضوح فى ارتباك مواقف الأحزاب والقوى الليبرالية واليسارية إزاء المؤسسة الدينية الرسمية (الأزهر الشريف) واستعداد البعض لقبول دور تشريعى وسياسى لها (مسألة الصكوك الإسلامية) وليس فقط دور مجتمعى عام (وثيقة نبذ العنف). مكونات الرجعية هذه بادية بوضوح فى تردد الليبراليين واليسار فى مواجهة صناعة التطرف وكراهية الآخر القبطى التى تنتج فى مجتمعنا المزيد من العنف والتوترات الطائفية وتهدد مواطنة الحقوق المتساوية بقوة، خوفا من أن يحمل عليهم من قبل ماكينة اليمين الدينى الجاهزة دوما للتكفير والتخوين. مكونات الرجعية هذه بادية بوضوح فى انهيار قدرة الرأى العام المصرى على إدارة نقاش ضرورى حول تحديث قوانين الأحوال الشخصية والأسرة، بل إن ثمة ردة واضحة تدلل عليها المحاولات المتكررة لتغيير قانون الخلع وقوانين حضانة الأطفال الضامنة لحقوق المرأة. مثل هذه الطبيعة الرجعية للحياة السياسية تتعارض مع مسارات بناء الديمقراطية والمواطنة وتداول السلطة وجميعها يعيش على الحيوية المجتمعية المتجاوزة للخطوط الحمراء والبحث المستمر عن الجديد وغير التقليدى والقدرة المتصاعدة على تعميق المساواة فى المجتمع.

0 التعليقات:

Post a Comment

 
الحصاد © 2013. All Rights Reserved. Powered by Blogger Template Created by Ezzeldin-Ahmed -