في الغالب لم يكن الفريق السيسي وزير الدفاع المصري والقائد العام للجيش، قد سمع بالجملة التي قالها نهاية القرن التاسع عشر اللورد نورث كليف، ماللك اغنى صحيفة في بريطانيا العظمى،عندما سئل عن ما يهم الناس، فأجاب بكلمة واحدة: "أنفسهم".
لكن في الغالب ايضا أن من كتب له خطابه الأخير يعرف جيدا هذه الجملة وقائلها والفسلفة الكامنة وراءها، وكيف يستخدمها لتأسيس شرعية جديدة للجيش والسلطة وبينهما الناس الذين يخاطبهم من أنفسهم.
يعكس التحسن البلاغي والتعبيري الكبير في كلمات وخطابات الفريق السيسي، وجود عقول ماهرة وأياد صحفية خبيرة، تساعده على الظهور امام الجماهير وهو في افضل لياقة لفظية، وبالطبع يحمل هو عبء لياقته النفسية والجسدية، التي احيانا يبدو عليها الإرهاق، رغم تدفق الألفاظ وحزم النبرة.
وبحلول يوم الاحد 14 يوليو/تموز، يكون قد مر أسبوع دون أعمال عنف في الشوارع بعد اشتباكات بين الجيش ومؤيدين ومعارضين للرئيس المقال محمد مرسي أودت بحياة اكثر من 90 شخصا وآلاف المصابين، في الايام التي تلت الإطاحة به على يد قائد الجيش.
وفي هذا اليوم نفسه وقف الفريق السيسي ليقدم خطابا سياسيا خالصا ربما للمرة الأولى بهذا الوضوح، حيث لم تكن هناك اي مناسبة لاعسكرية ولا عامة ليجمع السيسي ضباطا من القوات المسلحة المصرية ويتحدث اليهم، وفي نفس الوقت يقدم خطابه للشعب المصري، شارحا فلسفة إدارته للأمور في المستقبل القريب ، من خلال ما اسماه خارطة الطريق التي تحتوي على خطوات لتشكيل حكومة جديدة، ولجنة لتعديل الدستور المعطل، وإنتخابات برلمانية يعقبها اخيرا انتخابات رئاسية في مدة زمنية ستة اشهر وقد تطول عن ذلك إن دعت الحاجة.
يقول القائد العسكري للشعب المصري: "اختارت القوات المسلحة المصرية بكل أفرادها وقياداتها وبلا تحفظ أن يكونوا في خدمة شعبهم والتمكين لإرادته الحرة لكي يقرر ما يرى، لأن إرادته هي الحكمة الجماعية لعلاقته مع نفسه ومحيطه وعالمه وعصره، وأن القوات المسلحة المصرية عرفت وتأكدت وتصرفت تحت أمر الشعب وليست آمرة عليه، وفي خدمته وليست بعيدة عنه، وأنها تتلقى منه ولا تملي عليه"
هو هنا في اول فقرة له يحدث الناس عن "أنفسهم" ويؤكد مفهوما مبتكرا في الحياة السياسية المصرية، وهو "الشرعية الشعبية"، التي استمد قائد الجيش منها قراره بعزل الرئيس محمد مرسي، استجابة لحشود هائلة تظاهرت في الميادين تطالب بعزله.
وإن كان لم يفسر كيف تتحقق هذه الشرعية الشعبية، حيث تتحول الشرعية هنا وفقا لعالم الإجتماع الألماني ماكس فيبر، إلى "التزام أخلاقي" وهي مسألة نسبية ومتغيرة، وليست بالضرورة "إطارا قانونيا حاكما ومستقرا" ، فمتى يتم اعتبار التظاهرات إرادة شعب، أو أعمال شغب، وماهي وسائل التحقيق لهذه الشرعية غير تدخل القوة العسكرية في كل مرة، لكنه في كل الأحوال خطاب يسترعي آذان الجماهير، ويستدعي امامه حلم التحام الجيش بالشعب الذي تجسد في صورة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، الذي كان يسميه الغرب المعادي لسياساته "الكولونيل ناصر"
نفس الأمر يجري الآن حيث صدر العدد الجديد لمجلة تايم الامريكية الشهيرة، يحمل غلافه صورة الملايين الهادرة في الميادين المصرية، ونصف الصورة مكتوب عليه " أفضل احتجاجات في العالم، والنصف الآخر لنفس الصورة مكوب عليه " اسوأ ديمقراطية في العالم"، تعليقا على عزل "الكولونيل جنرال " السيسي، للرئيس"المنتخب" محمد مرسي، في استجابة عسكرية لمطالب شعبية، وفي داخل العدد رصد احد الكتاب ما اسماه ، ديمقراطية "الرورشاخ" ، وهو الإختبار النفسي الشهير، الذي يقوم فيه الشخص بإسقاط شعوره الداخلي على بقعة حبر امامه، فيرى صورا ليست بالضرورة هي مايراه آخرون عندهم إتجاهات ومشاعر مختلفة، ووفقا لهذا الإسقاط النفسي السياسي، يمكن لأي فريق ان يرى مايجري في مصر إنقلابا عسكريا على سلطة منتخبه، أو إنحيازا عسكريا لسلطة شعبية عبرت عن نفسها مباشرة في الشارع والميدان، دون حاجة لإستخدام ادوات التعبير الوسيطة في الإنتخابات والإجراءات القانونية.
ويعود الفريق السيسي ، ليؤكد مجددا في خطابه على شرعية الشعب مباشرة ، ليكررها عدة مرات، وسبق ان خرجت بيانات القوات المسلحة الرسمية خلال الاسبوعين الماضيين لتستخدم تعبيرات داعمة لهذا المعنى، ومؤكدة على"ثورة" 30 يونيو، وهو ما يعكس الإهتمام الشديد باختيار الألفاظ التي تصنع صورا ذهنية شعبية، وهو ايضا ما قام به قبل ذلك الصحفي والسياسي المخضرم محمد حسنين هيكل في زمن الرئيس عبد الناصر، عندما أخترع تسمية " النكسة" للإشارة إلى هزيمة القوات المصرية والعربية من القوات الإسرائيلية في حرب يونيو 1967 .
ولم يتردد الاستاذ هيكل نفسه في الظهور على شاشات التلفزيون خلال الأسابيع الماضية ليشرح طبيعة الموقف، وإضطرار الجيش للتدخل بعد الفشل المتكرر للرئيس مرسي في حل الأزمات، ومواجهة الإحتقان السياسي الخانق الذي كاد أن يعصف بكل مطالب الناس واحتياجاتهم وبالتوافق السياسي المفتقد، وبالأمن الداخلي والخارجي على السواء، وكشف هيكل أنه على اتصال دائم بالفريق السيسي منذ وقت طويل، وأن الرئيس مرسي كان يرسل لهيكل بعض الرسائل عن طريق السيسي، وهي التصريحات التي فسرها بعض السياسيين ، بأن العقل والقلم واللسان وسحر البيان الذي يتكلم به الفريق السيسي، هو مستمد وبإشراف هيكل شخصيا، خصوصا في ظل تشابه تركيب الجمل وطريقة الحكي في خطابات السيسي مع كتابات هيكل.
وفي اعقاب 25 يناير ، تولى المجلس الأعلى للقوات المسلحة "إدارة شؤن البلاد" بنص خطاب التنحي الذي تلاه نائب الرئيس وقتها عمر سليمان، وبرزت وجوه المشير طنطاوي والفريق سامي عنان رئيس الأركان، وعدد من قادة القوات كالواء ممدوح شاهين واللواء محمد العصار واللواء محمود حجازي وغيرهم عديد، ولم يكن يظهر أحدهم على شاشة التلفزيون او في المؤتمرات الصحفية إلا ومعه رفاق له من أعضاء المجلس العسكري.
لكن بعد عزل الرئيس مرسي لم يظهر في الصورة أحد من قادة القوات المسلحة، ولم يتحدث أحد للجماهير والشعب سوى الفريق السيسي بنفسه، أو المتحث باسم القوات المسلحة حينما يتلو بيانات صحفية، بما يدعم صورة القائد المسيطر الملتحم مع الناس والمجسد لحلمها في الاستقرار والقوة والفتوة، الذي تعكسه الخطابات السياسية لقائد الجيش، الذي يجلس الآن في مقر القيادة للجيش والشعب معا نحو مستقبل لاتبدو ملامحه بالوضوح الذي ترسمه قوة الكلمات ولا رطانة التعبيرات. يستدعي فيه الجيش والشعب نموذج الستينات، على أمل ان تعود الأيام التي كان الحلم فيها قوميا ووطنيا يستطيع حشد الطاقة وصنع الإنجاز، بصرف النظر عن تعريفات الديمقراطية، او حجم الإحترام للحقوق والحريات.
إلا أن جريدة "واشنطن بوست" في عددها الصادر قبل يومين من خطاب السيسي ، تحذر من استدعاء نموذج الستينيات في مصر بحذافيره، بما فيه من قمع او عصف بالديمقراطية، وتقول في لهجة حادة تعكس إضطرابا وتنوعا في القراءة الأمريكية لما يجري في مصر: "قام القائد والزعيم العظيم جمال عبد الناصر بشن حملة وحشية ضد الإخوان من عام 1954 حتى وفاته في عام 1970. وكان الإخوان آنذاك محظورين، وزُج بالآلاف منهم إلى السجن. وفي عام 1966، تم إرسال الشخصية الرمزية الإسلامية، الكاتب سيد قطب، إلى حبل المشنقة. لكن ظل الإخوان على قيد الحياة".
زعيم "انقلاب" هذا الشهر، الجنرال عبد الفتاح السيسي، قائد القوات المسلحة ووزير الدفاع، لا يمكن أن ينجح في فشل فيه عبد الناصر الكاريزمي - بحسب الصحيفة - لا يستطيع السيسي أن يحل المشاكل المتجذرة في مصر والتي تغذي “الإسلام السياسي”. إنه لا يستطيع أن يعالج الفقر المدقع بشئ من اليوتوبيا الحديثة لبلد تقودها الداروينية التي تتخلى عن الضعفاء بدون دعم."
سيظل إذن الإنجاز على الأرض هو رمانة الميزان في ترجيح كفة الحلم، نحو مستقبل افضل للوطن، بين استدعاء نموذج ماضي بما له وما عليه، وبين التعلم من تجربة الماضي ليكون مصباحا للمستقبل دون التورط في حتمية العودة لحذافير التاريخ .
0 التعليقات:
Post a Comment