عائد من ليبيا - ارشيفية

بوجوه معفرة بالتراب، وملابس اختلطت بها دماء المصابين مع ملح عرق أهلها الكادحين، روى العشرات من المصريين الناجين من جحيم التشرد والقتل فى ليبيا، لـ«الشروق»، قصة معاناتهم المستمرة منذ أيام، على معبر رأس جدير الحدودى، بين ليبيا وتونس. وذلك فور عودتهم، صباح أمس، إلى مطار القاهرة الدولى، قادمين من مطار جربا التونسى، على متن طائرة مصر للطيران فى الرحلة رقم 3203، التى أقلت 261 راكبا، من بين آلاف مؤلفة من المشردين فى الصحراء بلا مأوى أو مأكل أو مشرب.

الناجون من جحيم كاد يفتك بهم، على عتبات الأشقاء بين ليبيا وتونس، ويكاد يفتك بالباقين منهم هناك، بحسب شهادات الكثيرين منهم، لم يجدوا مسئولا مصريّا واحدا فى انتظارهم بمطار القاهرة الدولى، فور وصولهم، كان لسان حالهم، وهم يبحثون عن وسيلة انتقال إلى مواقف السيارات الأجرة المتجهة إلى الصعيد، يحكى قصة قهرٍ ممتدة عبر آلاف الكيلومترات، خارج حدود الوطن وفى الداخل أيضا.

وبحسب موظفة الاستعلامات فى صالة الوصول بمبنى الركاب (رقم 3) بالمطار الجديد، فإن الطائرة التى وصلت المطار فى الثامنة إلا عشر دقائق من صباح أمس، كان مقررا وصولها فى الثامنة من مساء أمس الأول، إلا أنها «تأخرت كعادة كل الطائرات التى تقوم برحلات العودة من جربا»، على حد قول موظف آخر باستعلامات المطار.

حول العائدين من ليبيا، التف العشرات من أهالى القادمين من عواصم مختلفة من العالم، ارتسمت سحابة حزن على وجوه الجميع، وتبادل الناس عبارات الأسف لحال «أبناء البلد الذين فروا من قهر الجوع والفقر فى الوطن، لتهاجمهم أنواع شتى من القهر فى الغربة».

وسط عدد من أقاربه، قال أحمد تونى (33 عاما)، عامل، لـ«الشروق»:» مأساتنا بدأت مع ثانى أيام عيد الفطر المبارك، عشنا ثمانية أيام فى جحيم لا يرحم، تداهمنا العصابات المسلحة لتسرقنا ليلا، يفتشون أغراضنا وينهبون أمتعتنا، فنهرب منهم إلى الحدود التونسية بحثا عن مهرب، فنجدها مغلقة، لذلك عشنا فى الصحراء دون مأوى أو مأكل أو مشرب».

تونى المولود فى مركز دار السلام بسوهاج، أضاف بصوت مبحوح: «نطالب الرئيس عبدالفتاح السيسى والحكومة بإنقاذ العالقين فى الصحراء، لأنهم يواجهون الموت والضرب والإهانة مع كل ساعة وكل دقيقة تمر عليهم هناك، طائرة واحدة يوميا لا تكفى لإنقاذ الناس هناك، والحديث عن جسر جوى أو غير ذلك، أكاذيب غير صحيحة مطلقا».

يتدخل شاب صغير السن، من أقارب تونى، قائلا: «نحن عائلة تضم حوالى 45 فردا نعمل كلنا فى ليبيا، بعضنا تمكن من الهرب، والعودة إلى مصر، والغالبية مازالوا عالقين، تعرضنا للضرب والإهانة، كانوا يعتدون علينا بالعصى وخراطيم المياه، وبين المصريين هناك جرحى فى مستشفى زوارة، وبعض الناس يتحدثون عن موتى، وحين كنا نطلب من أحد المساعدة، ليبيا كان أو تونسيا، كان يرد علينا: «هات سفيرك وهات رئيسك يساعدك».

«أحيانا كان الليبيون يقدمون لنا ونحن فى الصحراء، زجاجة مياه صغيرة وكسرة خبز، ويرمونها لنا كما يرمون الأكل للكلاب، وكانوا يصورننا بالكاميرات ونحن نتناول الماء والخبز، وبعد التصوير ينهالون علينا ضربا، وإهانة»، أضاف الشاب.

شاب آخر من العائدين، قال إنهم حاولوا التواصل مع السفير المصرى فى ليبيا لحل مشكلتهم فى العبور إلى تونس فجاء الرد: «لا يمكننى مساعدتكم، لأن هناك خلافات سياسية بيننا وبينهم».

يصرخ عائد آخر ردا على سؤال حول مطالبهم، قائلا: «هاتوا اخواتنا اللى بيموتوا فى الصحراء، هاتوا الناس الجريحة، تركنا فلوسنا ومتاعنا علشان نيجى، محتاجين من الحكومة تجيب الناس اللى هناك».

مصابا لا يقدر على السير منفردا يعبر بوابة الوصول، فى طريقه إلى مسقط رأسه بمحافظة أسيوط، جنوب الصعيد، يتمتم لمرافقه بعبارات عن «ضياع الشقاء والتعب والهوان»، ويرفض الحديث مكتفيا بالقول: «فى مستشفى زوارة، نحو عشر حالات من المصريين فى العناية المركزة، ياريت حد يعتنى بيهم من مصر».

محمد سعد، شاب ثلاثينى، كان يعمل نجارا فى ليبيا، قال: «المصريون يأكلون من التراب، ويعيشون فى ذل، تشاجر أحدنا مع عامل مغربى فى ليبيا، فما كان من أحد عناصر الشرطة الليبية إلا أن اعتدى علينا، وتلفظ بعبارات نابية بحقنا جميعا، وأهان رجولتنا بسباب بذىء».

رغم كل ما رواه من مآسٍ بشأن عصابات السرقة والسطو، والاعتداء على المصريين فى ليبيا، إلا أن أبوالحجاج عتريس (25 عاما) الذى كان يعمل فى الزنتان، يتحفظ كثيرا على الحديث بشأن ما لاقاه، قائلا: «لا نريد الحديث عما وجدناه، نريد فقط أن تسارع الحكومة بإعادة أهلنا العالقين على الحدود بين ليبيا وتونس».

عتريس، المولود فى قنا، كان يعمل فى مجال البناء، واضطر كغيره من العائدين، إلى ترك مبالغ مالية تبلغ الآلاف من الجنيهات، حتى يتمكن من الفرار والنجاة بحياته.

سلمان صلاح أبوجبل، من مواطنى مغاغة بالمنيا، كان يعمل فى مجال البناء فى ليبيا، قال إن المصريين «حين ضاقوا ذرعا بالعنت الليبى ضدهم، وتركهم فى الصحراء على الحدود مع تونس، بدأوا فى الاحتجاج ورشقوا الليبين بالحجارة، فردوا عليهم بالغاز المسيل للدموع والرصاص الحى».

هنا تدخل حسين العمارى، صارخا: «أنقذوا المصريين يا عالم، المصريون يموتون، ويأكلون الحشائش فى رأس جدير».

يروى مواطن آخر من العائدين، قصة معاناتهم، قائلا: «البداية كانت حين أصابنا اليأس من الوضع الذى وجدنا أنفسنا فيه فى الصحراء دون مأكل أو مشرب، وفى ظل إغلاق الأبواب التونسية أمامنا، فنظمنا مظاهرة، وخربنا فيها سيارة ليبية وإحدى البوابات، فأطلق الليبيون علينا الغاز المسيل للدموع والرصاص، وحين حاولنا الهرب منهم نحو الحدود التونسية، واجهنا اعتداء مماثلا من عناصر الأمن التونسى، لكن بعد ذلك بيوم واحد فتحوا لنا الأبواب التونسية».

تدخل مواطن من العائدين وقال: «كان التونسيون والليبيون يقولون لنا: خلى السيسى بتاعكم يروحكم.. خلى سيسيكم يروحكم».

محمود فارس، مواطن أربعينى، قال: «شاهدت بعينى مواطنا مصريا ميتا، ورأيت آخر تلقى طلقة رصاص عيار 14.5 مل، تسببت فى بتر قدمه، منذ سبعة أيام»، وأضاف فارس منفعلا: «عايزين الجيش يجيب لنا حقنا، يا إما مش هنشجع حد تانى».

إلى جوار محمود فارس، كان يقف مواطن خمسينى، رفض ذكر اسمه، وقال: «أسجد لله بعد العودة إلى مصر، وآكل بملح هنا ولا أروح ليبيا»، وأضاف: «تركنا فلوسنا وأمتعتنا ونطالب بتعويضنا وإلزام ليبيا بدفع مستحقاتنا».

يشعر العائدون من ليبيا بأسى كبير لـ«غياب المتابعة الرسمية لأزمتهم بشكل ينهيها سريعا»، يقول أحد العائدين: «لم نر أى ممثل رسمى معنا، فقط مجرد مندوب، يظهر دقائق ويختفى لساعات فى تونس، ولا صحة مطلقا لما يتردد عن وجود جسر جوى لنقل العائدين، وأغلب من يتمكنون من العبور إلى الأراضى التونسية من ليبيا، يفعلون ذلك بعد دفع مبالغ مالية لمواطنين ليبيين، يساعدونهم فى ذلك، تتراوح ما بين 50 و100 دينار».

ويضيف: «قلت للمندوب المصرى فى تونس، إننا نريد أكثر من طائرة، وأن تكون سعتها كبيرة، حتى تتمكن من نقل بقية العالقين، فقال لى: «خليك فى نفسك»، وتابع باكيا: «الليبيون والتونسيون كانوا يضربوننا من الناحيتين، ومن كان يموت منا فى الناحية الليبية، كانوا يأخذونه معهم فى سيارة ويذهبون به بعيدا عنا».

لم يتصور محمود محمد شاكر، الحاصل على بكالوريوس التجارة شعبة إدارة الأعمال عام 2006، من جامعة أسيوط، أنه سيكون واحدا ضمن آلافا عديدين، فى قائمة العائدين من ليبيا بعد أعمال عنف تطالهم، تأخذ معها حصيلة شقائهم لفترات تتفاوت من أشهر قليلة إلى سنوات، ما بين عامل وآخر.

محمود، الذى كان يعمل فى الزنتان بالجبل الغربى، واجه عدة محاولات للسرقة من جانب عصابات مسلحة، كانت تداهم مقار إقاماتهم، بغية الاستيلاء على أموالهم لكنه كان يفلت من هذه المحاولات «بالتعامل بالأدب واجتناب الحديث مع اللصوص مطلقا». «الكثيرون تركوا مستحقات مالية لهم لدى ليبيين، فرارا مما كانوا يلاقونه هناك»، يقول محمود، ويضيف: «تحركنا نحو رأس جدير بعدما سمعنا دعوات فى التلفزيون المصرى، تنصحنا بذلك، وأنا وصلت إلى هناك يوم 29 رمضان، لكننا لم نجد شيئا هناك فور وصولنا، فقط مجرد صحراء قاحلة، وحين حاولنا المرور من المعبر الحدودى بين ليبيا وتونس، وجدنا التوانسة يرفضون ذلك فى البداية، قبل أن يسمحوا لنا بالمرور فيما بعد، تمهيدا لعودتنا إلى مصر، ونأمل أن يتمكن كل العالقين من العودة فى أقرب فرصة».

الشروق

0 التعليقات:

Post a Comment

 
الحصاد © 2013. All Rights Reserved. Powered by Blogger Template Created by Ezzeldin-Ahmed -