كانت رائحة الدماء تلوح فى الأفق القريب ، نشعر بها ستلطخ وجوهنا وقلوبنا وضمائرنا ، لكننا لم نستطع أن نمنعها من أن تسيل لترسم خطا فاصلا بين مرحلتين ، مصر ما قبل مذبحة رابعة ومصر ما بعد المذبحة ، كنا نناشد أصحاب القرار فى الناحيتين أن تريثوا وتمهلوا قبل أن يتدفق نهر دماء يمزق هذا الوطن ويضع لبنات خرابه التى تذكيها نيران الكراهية ورغبة الثأر والانتقام ، لكن لم يسمع أحد لنا ، قال عنا الأولون أنتم تناصرون الباطل وتؤيدون الطغيان وقال عنا الحاكمون أنتم حالمون ولا تدرون أين مصلحة الوطن ، قلنا لهم إن مصلحة الوطن ليست فى إراقة الدماء قالوا لا تحدثوننا نحن اذهبوا إلى من أغلقوا عقولهم وأسماعهم وانصحوهم ، وظللنا بين الطرفين كل طرف يرى أنه على حق مطلق وأنه يدافع عن مصلحة الوطن وارادة الشعب وتنازعت الإرادات وتسارع الوقت لترتفع أصوات الكراهية وأبواق التحريض والشيطنة ، حول الإخوان الصراع السياسى على السلطة إلى صراع عقائدى بين الخير والشر والكفر والإيمان وحولت السلطة الصراع الى صراع بين الوطنية والخيانة فمن وافقها منحته صك الوطنية ومن خالفها اتهمته بالخيانة ، وكما انطلقت منصة رابعة تبث خطابات غريبة وصادمة انطلقت منصات السلطة الإعلامية مجتمعة لتدق طبول الحرب وتنادى بإبادة هؤلاء الخارجين عن الدولة وارتفعت صياحات الفرم والقتل والمحو من الوجود وصناعة الفاشية
كان من العجيب أن تتدافع تلك الجموع للنزول تفويضا لمجهول لا يبدو منه إلا أنه سيكون مخضبا بلون الدم القانى ، وحين رفضنا التفويض وقلنا أن مؤسسات الدولة وسلطتها التنفيذية لا تحتاج لتفويض للقيام بواجباتها وأننا نبرأ أنفسنا من المشاركة فى تفويض قد تكون عاقبته إزهاق أرواح البشر قال عنا أنصار السلطة أنتم طابور خامس وخلايا نائمة وقال عنا الاخوان فى نفس الوقت إننا شركاء فى الدماء رغم أننا رفضنا التفويض وحذرنا من عواقبه ، ولكن كل طرف لا يرى إلا ما يريد رؤيته ولا عجب فلحظات الكراهية تعمى القلوب والأبصار
كنا على يقين أن نهاية المطاف مسارات للدم وصرخنا فزعا من عاقبة الآتى وصمت الأذان وعميت الأبصار ووقعت المذبحة ومع كل ساعة يبلغونك أن صديقك قد مات وجارتك قد ماتت وقريب جيرانك الى ما لا نهاية ، الضحايا بالعشرات ثم بالمئات الدم يصبغ كل شىء حولك والأشلاء تتناثر بين نواح وصراخ وبكاء فى ناحية وفرح وسعادة ونشوة فى ناحية أخرى ، صار مربع مسجد رابعة ينبض بالدم والجثث المتناثرة على الأرض وفى مداخل البنايات وفى مسجد الإيمان بشارع مكرم عبيد تراصت الجثث التى تشوهت ملامح بعضها بعد أن أحترقت وتيبست وفاحت منها رائحة الشواء ، تتدافع الأمهات والأباء للبحث عن جثامين أبناءهم وذويهم وتتساقط الأمهات وهن يرون فلذات أكبادهن قد تشوهت معالم أجسادهم بسبب الجحيم المصبوب وأى جحيم هذا الذى يصنع لنا هذا المشهد المرعب الذى يفوق فى قسوته أشد أفلام الرعب وخرج وزير الداخلية ليقول لنا أن السلاح المضبوط فى رابعة هو10 بنادق آلية و29 سلاح خرطوش فقط وانتظرنا الأسلحة الثقيلة ومضادات الطائرات التى تحدث عنها الاعلام حتى نتفهم امكانية قتل أكثر من 700 شخص خلال ساعات لكن لم نجدها
على الناحية الأخرى انطلقت دعايات التأييد والفرح بالنصر المؤزر على الارهاببين ، وصدحت أغنية ( احنا شعب وانتو شعب ) لتؤصل لمرحلة جديدة فاصلة بين شعبين فى وطن واحد ، والحقيقة أننا لم نعد شعبين فقط بل أربعة شعوب شعب موالى للسلطة ويؤيدها فى كل شىء وشعب يعبد الشرعية التى أسقطت ويريد عودة مرسى وشعب لا يريد عودة الاخوان ولا عودة الاستبداد ودولة مبارك ويرفض سفك الدماء ويدافع عن حقوق الانسان أيا كان انتماءه ، وشعب رابع منفصل عن كل هؤلاء ويلعنهم جميعا ويراهم سبب جوعه وشقاءه الذى يزداد يوما بعد يوم
بكت قلوبنا وعيوننا على من رحلوا من نعرفهم ومن لا نعرفهم فقال أنصار السلطة وحزبها أنتم خونة و ضد الوطن كيف تتعاطفون مع هذه الدماء التى سالت ؟ وقال الاخوان وأتباعهم هذه دموع التماسيح أنتم شركاء فى القتل لأنكم شاركتم فى 30 يونيو وكأن المشاركة فى 30 يونيو ومعارضة ما أتبعها من انحراف هو الذى صنع المذبحة وليس خيارات قادة الاخوان الصفرية والسلطة الجديدة التى قررت ان الاستئصال و الحسم مهما كانت الدماء التى ستراق هو الطريق الأمثل لتثبيت أقدامها فإذا بهذه الدماء تفتح على الوطن أبوابا للجحيم لا يعلم أحد متى تُغلق !
إذا كنت واحدا ممن يتطابق موقفهم مع هذا المقال فاعلم أنك لست وحدك بل إن أمثالك كثيرون ربما يبدو صوتهم خافتا وسط احتكار السلطة للإعلام ولكن صوت ضميرك سيظل متيقظا بين هؤلاء وهؤلاء يشق طريقه بين كل هذا الظلام الدامس الذى أغرق الوطن ، حافظ على ثباتك لولا قلة من ضمير حى بقيت ثابتة على موقفها وسط العمى والكراهية لفقد الوطن أمله فى ضياء سيأتى ليمسح هذا السواد
ستمر الأيام ويدور التاريخ وستبقى رابعة مذبحة مروعة من المذابح التى وثقها التاريخ كصفحة سوداء فى تاريخ البشرية ، وأيا كانت الروايات المختلفة التى ستحمل السلطة المسئولية كاملة أو الروايات التى ستحمل الاخوان المسئولية كاملة أو الروايات التى ستحمل الطرفين المسئولية هناك 5 حقائق لا شك فيها، الأولى أنه لا يمكن مقارنة موقف السلطة بمن خارجها ولا يمكن مقارنة ما تحمله أى سلطة من سلاح وأدوات للقتل يجب أن تستخدم فى إطار القانون وإلا تحولت لجريمة وإذا استمرئت أى سلطة استخدام القتل خارج إطار القانون فقد فتحت الباب لفوضى قاتلة لا تبقى ولا تذر ، الحقيقة الثانية وهى أن من ماتوا لن يعودوا والبكائيات لا تبنى مستقبلا إذا لم تمتزج بالمراجعة وتقييم الذات وإعادة تأطير الرؤية التى صنعت الأزمة والخروج عن إطار المظلومية والندب والعويل فقط ، الحقيقة الثالثة أن من رقصوا على أشلاء ضحايا رابعة وغيرها لمجرد أنهم ينتمون للفريق الذى يكرهونه هم الفاقدون للإنسانية المجردون من المروءة والذين لا أمل منهم يرتجى فى نصرة مظلوم وإنصاف مقهور أو بناء وطن ، الحقيقة الرابعة أن ماحدث من مذبحة لم يكن حتميا كما يدعى بعضهم بل كان يمكن تجنبه ، الخامسة أن نهر الدماء الذى تدفق لم ندفع ثمنه بعد وكل ما أعقب المذبحة على مدار عام من انتهاكات لحقوق الانسان تحت أى مبررله ما بعده ولو طال الزمان ، وأن المستقبل اذا لم يحدث الوئام الوطنى والمصالحة بين الشعوب الاربعة التى تعيش بهذا الوطن سيكون مستقبلا بائسا مخضبا بالدماء ومكسيا بالسواد
رحم الله من رحلوا من الأبرياء ممن لم تتلوث يدهم بدم ولعن الله كل قاتل سواء بيديه أو بموقفه أو بكلماته ، وعند الله تجتمع الخصوم
0 التعليقات:
Post a Comment