منذ بداية دخولي لمحيط السينما وأنا ألاحظ أن تعامل أهل مصر مع “الجزيرة 2″ مختلف تمامًا عن أي شيء رأيناه خلال الثلاث سنوات الماضية، العدد كبير جدًا والحفلات كاملة العدد قبل مواعيدها بساعات والفيلم يحتل واجهة معظم صالات العرض وعلى الرغم من أني ذهبت لسينما تبعد حوالي ساعتين من طنطا ويحتل الفيلم أربع قاعات عرض من قاعاتها السبع إلا أنني لم أوفق إلا لحجز تذكرتي في حفل الواحدة فجرًا – الذي كان مكتملًا أيضًا – أي أنني مضطر لانتظار الفيلم لأربع ساعات، وبعيدًا عن تقييم تجربة السينما بشكل خاص بكراسيها وشاشاتها وأجهزة الصوت ومقارنتها بسينمات طنطا التي لربما سأخصص وقتًا من حياتي لكتابة كتاب كامل عن عجائب الحياة بداخلها، سأتحدث بشكل خاص عن المنتج الفني الذي حقق 10 ملايين جنيه في ثلاثة أيام.
الحكاية
الملحمة التي بدأت بقصة مقتبسة عن أحداث واقعية لتاجر المخدرات الأسيوطي “عزت حنفي” الذي تورط في علاقة بالداخلية قائمة على ترك المجال لتجارته في المخدرات في مقابل مساعدتهم في القضاء على العناصر الإرهابية بالصعيد، وانتهت بإعدام حنفي وشقيقة حمدان بعد أن استولوا على مئات الأفدنة لزراعتها بالمخدرات وقاموا بقتل عدد يتجاوز المائة خلال خمس سنوات، الملحمة التي انتهت في عام 2006 كانت مادة خصبة للسيناريست محمد دياب لكتابة الجزء الأول في فيلمه الملحمي بعد أن أضاف له علاقة رومانسية مركبة للبطل نجح من خلالها أن يحول الفيلم لعمل فني جيد مع عدم المساس بخط القصة الواقعية التي اقتبس منها.
ما الجديد في الجزء الثاني؟
العكس تمامًا هو ما حدث، الجديد أن محمد وخالد وشيرين دياب قرروا أن يمدوا الحكاية على استقامتها في خيالهم ثم قرروا أن يسقطوها على الواقع وأن يبحثوا فيما حدث في مصر عن ما يلائم حكايتهم وملحمتهم، وبالطبع لم يجدوا أفضل من ما حدث في السنة الأولى لثورة يناير.
“الشرطة مش خدامين حد”
يحمل مدير الأمن السابق والمتهم بقتل المتظاهرين في أعقاب ثورة يناير لافتة تحمل شعار الشرطة القديم والمُعاد حديثًا “الشرطة في خدمة الشعب” وينزلها من على حائط مكتب أحد المسؤولين بالداخلية ويلقيها قبل أن يغادر الكادر.
والجمهور يشتعل تصفيقًا وتهليلًا وتصفيرًا في قاعة السينما.
– المشهد من الجزيرة 2 على لسان شخصية العقيد رشدي الذي قام بدوره الفنان العبقري خالد الصاوي -.
أنا أحب خالد الصاوي وأجده ممثلًا مسرحيًا عظيمًا ولا ألومه على إبهاره للمشاهدين في صالة السينما ولكني ألوم الكاتب والمخرج الذين جعلا مدير أمن بالداخلية يمتلك كل هذه القدرات المسرحية التي جعلته بطلًا لكل مشاهده بالفيلم بل امتد الأمر لقيامه برمي إفيهات من المستحيل أن تخرج من شخصية العقيد رشدي، الشخصية المتحفظة السمجة التي ظهرت في الجزء الأول والتي استفزت بطل الفيلم “منصور الحفني” وجعلته يقوم بإشعاله بالبارود حيًا لتعذيبه بعد أن تأكد أنه الشيطان الذي رباه وسمنه ليقوم بذبحه في النهاية.
الغريب أيضًا أن الإخوة دياب قد اعتمدوا على حادثتين يجعلان المشاهد يخرج من قاعة السينما وهو موقن تمام اليقين من أن ثورة يناير كانت شيء سيئ أطلق الخارجين عن القانون واعتدى فيه المتظاهرون على قوات الأمن – الغلابة – التي تحاشت التعامل معهم وقتلهم ولم يفعلوا ذلك إلا للدفاع عن النفس، فالثوار المجانين هم من ألقوا بأنفسهم وهم لا يحملون إلا العصي الخشبية أمام قوات الأمن المدججة بالسلاح بل استمروا في مهاجمتهم رغم إطلاق قوات الأمن النار في المليان.
الحادثتين هما: كيفية اقتحام مديريات الأمن وكيفية اقتحام سجن وادي النطرون، واللتان وحتى اليوم ما زالت تفاصيلهم الكاملة غائبة عن الجميع وأنا هنا لا أجزم بصحة أية رواية ولا أعمم أن كل العاملين بجهاز الداخلية قتلة أو فاسدين ولا أعمم أيضًا أن كل من خرج في يناير واشتبك مع الشرطة كان سلميًا، واقع استغرابي الوحيد هنا أن الإخوة دياب أنفسهم كانوا ممن خرج في يناير ولكنهم يبدو أنهم لم يتذكروا أن يشيروا لما مثلوه من متظاهرين سلميين خرجوا واستقبلوا طلقات الأمن بصدورهم دون أن يطلبوا شيئًا سوى بعضًا من العدالة وقليل من الحرية.
الجزء الآخر الجديد في الحكاية هو وجود الرحالة وشيخهم جعفر الذي أدى دوره العظيم الراحل “خالد صالح”
الرحالة هم في إسقاط واضح للكل امتداد للإسلام السياسي وفي مقدمتهم جماعة الإخوان التي اقتبس الشيخ جعفر من أقوال مرشدهم الأول وأستاذهم حسن البنا كثيرًا خلال أحداث الفيلم، على نقيض شخصية خالد الصاوي احتاجت شخصية جعفر بالفعل لشخص بحجم خالد صالح وفصاحته وحضوره الدائم الطاغي وقدرته على التعبير عن الشر المستتر دائمًا برداء الخير.
خالد صالح “غول” تمثيل كما يقولون، وبالفعل يكاد يكون هو البطل الأول للحكاية والجميع من حوله يلهث لمجاراته، يُستثنى من ذلك هند صبري التي استمرت في صعودها المبهر واستطاعت أن تظهر لنا شخصية بحجم تعقيد “كريمة”، خرج الجميع من دار السينما مقتنع تمامًا أن الفيلم يؤصل لأن الرحالة وما يمثلوه في الخلفية “الاخوان” خونة وعديموا الهوية والانتماء، هم “جراد” كما كررتها شخصيات عدة في الفيلم أكثر من مرة، هم الشر الخالص وأحفاد الشيطان، حتى أن شخصية خالد صالح ذكرتني بأدائه للشيطان في “الريس عمر حرب”!
في النهاية لا أجد ذكرًا لأحمد السقا في هذه “الخناقة” سوى أنه مؤدٍ جيد لمشاهد الأكشن كما ألمح أن ظهور أروى جودة كان لامعًا كالعادة يعيبه فقط ضيق المساحة المتاحة لشخصيتها هي وأختها الصغيرة ذات الحضور اللطيف والطفولي المبهج مي الغيطي، كما أن أحمد مالك الذي كان من الممكن أن يكون بطلًا للفيلم بأدائه لدور ابن منصور الحفني وولي عهده قد ظلمه المخرج والكاتب كثيرًا بالإطار الموضوع لشخصيته الذي أفقده جزءًا كبيرًا من قدراته التمثيلية التي أعلمها جيدًا عنه والتي أظهرها لنا من خلال أدوار عدة منها دوره كحسن البنا صغيرًا في مسلسل الجماعة.
أن تحاول أن تستخدم تيمة الثأر والقبلية في صناعة سلسلة من الأفلام الملحمية هو شيء لا عيب فيه ولكن أن تقحم آراءك السياسية وتصدرها على أنها الحقيقة من خلال تلك الملحمة، هذا يعني ببساطة أنك تزيف التاريخ وتشوه ذاكرة السينما وهذا يعني من بين أشياء كثيرة أن فيلمك لن يعيش طويلًا في بلد يتم تغيير كتاب التاريخ – بتاع أولى ثانوي – به كل ثلاث سنوات مرة على الأقل.
المصدر: ساسة بوست
0 التعليقات:
Post a Comment