خرجت علينا الصحف والأخبار بخبر يتعلق بقيام مجلس الوزراء بإسقاط الجنسية عن أحد المواطنين وألحقت ذلك بسبب يتعلق بإقامته في الخارج والعمل مع مؤسسة أجنبية تهدف إلى تقويض السلم الاجتماعي والاقتصادي للدولة، وتساءل الناس من هو هذا الشخص وما الذي ارتكبه في الحقيقة؟.
وبدا للبعض أن يتحدث عن أن ذلك الاسم ليس إلا شخصية وهمية كانت بمثابة "الأمثولة" أو "خيال المآته" الذى يشكل تهديدا لكافة المواطنين برسالة عاجلة غير آجلة يجب أن يخوف بها الجميع، بأنه من الآن فصاعدا يستطيع مجلس الوزراء أن ينزع الجنسية عمن يشاء ويلبس الجنسية لمن شاء ويمن بها على من أراد وينزعها عمن يرغب، يحضرني هنا التشجيع للحصول على الجنسية فيما لو استثمر أفراد على أرض مصر ـ في أخبار توالت ـ تحت عناوين خطيرة وهي بيع الجنسية وكأنها الجائزة، فبدت الجنسية بذلك مجالا للنزع ومجالا للبيع، وهو شأن خطير وكأننا نتعامل في ذلك الأمر مع شيء مملوك يُنزع ويُطرح للبيع وتقام حوله المزادات وتُنزع الجنسية بأقرب وأوهى الاتهامات.
هنا تذكرت ذلك البحث الذي قمت بعمله حول المواطنة في إطار قراءة غير اعتيادية لنماذج المواطنة كما يطرحها الواقع المصري وتأملت تلك النماذج من نماذج المواطنة الإذعانية إلى نموذج مواطنة التهجير القسرى والمواطن الأمني والمواطن المتهم والمواطن السياحي ومواطنة المن، وبدا لي أن أتوج ذلك بنموذج أسميته "المواطن المتاهة" الذي يتحرك في حيرة من أمره وغام عليه كل شيء لا يعرف ما هي حقوقه ولا يعي ما هي واجباته، وبدا المواطن ليس فقط مذعنا ولكنه خائف خاضع متردد يخاف أن يقدم على شيء فيؤدي إلى معاقبته أو اتهامه أو تجريمه، كذلك المواطن الذي نوقفه عند بداية باب وفى نهاية المتاهة ندع له بابا واحدا يخرج منه،إنه المخرج الوحيد الأوحد في إطار من إحكام الانسدادات من كل مكان ليس له من طريق إلا طريقا أوحد يسلكه حتى يبلغ مخرجه أو يبلغ مأمنه.
هذا المواطن المكره عليه أن يسير في هذه الطرق المسدودة إلا فتحات محددة معدودة يصل بها إلى بر الأمان، إذا ما أراد أن يكون مواطنا صالحا بمفهوم السلطة يفهم ما تمليه عليه ويفعل ما تتوقعه منه فيكون مواطنا لبيبا أريبا "يفهمها وهي طايرة" حينما يفعل كل شيء وعينه على رضا السلطة حتى يبلغ مأمنه ويصل إلى الباب الوحيد الأوحد المفتوح.. إنه طريق السلطة المرسوم التى تتلقى مواطنها فى نهايته، فهل يمكن للمواطن أن يصنع طرقه الأخرى، هنا ستخرج الأوصاف إنه الإرهاب إنه الهدم إنها الخيانة.
هذا عن المواطن المتاهة الذي كنت أراه تتويجا لنماذج المواطنة المختلفة التي دُرِب عليها المواطن المصري في خضوع وخنوع،يحفظ المفردات التي يتحدث بها والمسالك التي يسلكها والأفعال التي يمارسها المحددة سلفا يقوم بعملها وربما تمثيلها أو لعبها من غير أن يتدخل أحد، لأن ذلك لم يكن في عرف السلطة إلا إثباتا، يشكل القول الشهير "وهو المطلوب إثباته".
ولكنني بهذا القرار النازع والمسقط للجنسية رأيت نموذجا آخر يعد تتويجا جديدا من سلطة الانقلاب الاستبدادية التي صارت تتعامل مع المواطن باعتباره عقارا موروثا يورث من مؤسسة لمؤسسة تحت دعوى الدولة وهيبتها والسلطة وأمنها، بدا هذا الأمر واضحا فيما يمكن تسميته بـ"المواطن المصيدة".
"المواطن المصيدة" نموذج جديد تفتقت عنه العقلية القمعية للانقلاب والتفتيش في النفوس والبحث عن معايير جديدة للمواطنة الصالحة، السلطة في هذا المقام تمنح وتمنع، تبيع وتشتري، تُلبس الرداء وتنزعه، ومن هنا بدا المواطن المصيدة في إطار فهم جديد للجنسية، وبينما تتسع دائرة المواطنة في كل الدنيا فإن دائرة المواطنة في مصر بدأت تضيق على ناسها فهؤلاء مواطنون شرفاء ممن يقومون بمساعدتها على البلطجة أو التجسس أو الإبلاغ عن غيرهم هؤلاء الذين اعتبرتهم السلطة خصوما لها بعد أن كانوا ضمن عملية سياسية يمارسون السياسة ضمن عملية تنافسية كغيرهم، ولكن الانقلاب رأى في محاربتهم مسوغا لشرعنة باطله، وغصبه للسلطة واختطافه الرئيس المدني المنتخب.
المواطن المصيدة إنما يتمثل في تحكم الدولة واحتكارها لكل شأن يتعلق بهذا الشعب وضمن مقولة قالها أحد الممثلين في مسرحية "تخاريف" حينما تحدث عن نموذج المستبد فقال "شعبي وأنا حر فيه.. أفرده وأثنيه.. وأكويه" ماذا أرد بذلك؟؛ الشعب صار ملكية خاصة للسلطة تفعل فيه ماتشاء، والمواطنة صارت شأنا يعبث به تتحكم فيه الأهواء والرغبات، وتحدد السلطة أصول إضفائه ودواعي نزعه، إن شخصا يستحق المواطنة فنضيف عليه الشرف والوطنية وآخر لا يستأهل ذلك فإنه الخائن أو العميل، هذا المواطن الأخير إذا هم بالسفر مُنع الخروج، وإن كان موجودا خارج بلاده مُنع من الدخول أو هو مدرج في قوائم ترقب الوصول، لأن المصيدة محبوكة الباب إن دخل لا يخرج، وإن خرج لا يدخل، هكذا هو المواطن المصيدة.
فإن لم يعجب الدولة من المواطن سلوك لوحت من كل طريق بنزع الجنسية عنه حتى لو كانت أصلية لا مكتسبة، فجعلت من إسقاط الجنسية عملا يتعلق بقرارات إدارية تنشر بالجريدة الرسمية، وهذا لعمري شكل جديد من أشكال الإعدام، إنه طرد من "جنة المواطنة" كما ترى السلطة وكما يريد هؤلاء أن يصوروا، فإما أن تكون عبدا طائعا خانعا من عموم القطيع لا تقول "لا"، ولا ترتكب فعلا من الأفعال المعارضة والتي تخرجك من دائرة المواطنة الصالحة، فيجعل كل ذلك مدخلا لتمكين السلطة بنزع المواطنة من دون جهات تحقيق أو جهات جمع أدلة وتقاضٍ.
هنا أتذكر أن أحدا كان له أم مصرية وأب فلسطيني وأراد أن يحصل على الجنسية المصرية تقوم وزارة الداخلية وكل الجهات الإدارية المعنية بتسويف ومماطلة حتى لو كان القانون يعطيه هذا الحق فتارة تتعلل بالأسباب الأمنية وتارة أخرى تتعلل بالأسباب الواهية، ولكنه في النهاية يعيش على أرض مصر ولم يحصل بعد على الجنسية، وهذا آخر تلقفته الشرطة حينما دخل أرض مصر في مؤتمر علمي واحتجزته السلطات لأنه فلسطيني وقد تقدم وفقا للقواعد بطلب للجنسية من قبل، وبدا هذا الرجل حينما أراد الناس أن يتحدثوا عن عسف السلطة معه ينشرون هذا فى إعلامهم ضاغطين على أصحاب السلطة والسلطان، فنهاهم عن ذلك ورجا هؤلاء أن يكفوا عن هذا الأمر حتى يحصل على صك الجنسية وبعد أسابيع في محبسه خرج عقب انتهاء تحريات أمن الدولة التي أوصت أن يمنح هذا الشخص الجنسية لماذا؟ لأنه نجح في اختبار الإذعان وبدا يقدم كل ما من شأنه من ـ مسوغات ـ يجب أن تكون في المواطن الخانع الطائع فأنعموا عليه بجنسية بعد مروره على بوابة الكترونية متخطيا كل الاختبارات الإذعانية لمواطن السلطة التى تريده.
تبدو تلك النماذج التي أشرنا إليها من "المواطن المتاهة" في عصر المخلوع "مبارك" إلى "المواطن المصيدة" في عهد الانقلاب نماذج تتفتق عنها صناعة الاستبداد والفرعونية لتؤسس علاقات تتخذ أشكالا ما أنزل الله بها من سلطان؛ هذه الأشكال يبدو مع هذه السلطة الانقلابية أنها ستتوالى في صور مختلقة وجديدة في حال المواطن المصري ولكنها في حقيقة الأمر لا زالت تدور في "مواطنة العبودية" التي يريد الانقلاب تعميمها على المصريين جميعا وتعاملهم كقطيع، ربما هنا فى المقابل نحن أمام خطاب يتأكد ورثناه في أصل الإنسانية والمواطنة يجب ألا نتخلى عنه لأن المواطنة لم تكن أبدا مصيدة إلا في ظل نظم استبدادبة قمعية فرعونية، المواطنة حقوق وواجبات ووساسات ومؤسسات، المواطنة تستند إلى أصل مفهوم الإنسانية تكريما وحرية، عزة وكرامة "،"لقد خلقنا الله أحرارًا، ولم يخلقنا تراثًا أو عقارًا؛ فوالله الذي لا إله إلا هو، لا نُورَّث، ولا نُستعبَد بعد اليوم".
0 التعليقات:
Post a Comment