حين يعمد بعض زملائنا إلى تنبيه الرأى العام إلى مدى جسامة المسئولية التى تتحملها السلطة القائمة فى مصر الآن، فإنهم يذكرّون الناس بعصر الفساد الكبير، الذى شهدته البلاد خلال سنوات حكم مبارك الثلاثين. وهم محقون فى ذلك لا ريب، إلا أن هذه المرافعة، التى أريد بها الاعذار تكشف فى الوقت ذاته عن مفاجأة أو مفارقة تبعث على الحيرة والدهشة.
ذلك أنه فى الوقت الذى تسلط فيه الأضواء بين الحين والآخر على الجرائم التى ارتكبها الرجل بحق البلد، والتى كانت سببا فى انطلاق الثورة عام 2011. فإن القضاء لم يحاسبه على شىء مما اتهم به، بل إنه لم ينظر فى شىء فى الجرائم الكبرى التى وقعت فى عهده وكانت مصر ضحية لها. ولفتح ذلك الملف قصة تستحق أن تروى.
فقد نشرت جريدة الشروق فى 8/10 أحدث عريضة اتهام لمبارك وعصره، وقد جاءت فى تعليق لرئيس تحريرها الأستاذ عماد الدين حسين كان عنوانه «الحقيقة المحزنة» وأورد فيه العبارات التالية: «إننا لم نكن نعرف حجم الخراب والفساد والتسوس الذى سببه نظام مبارك فى كل مرافق الحياة المصرية ومرافقها بلا استثناء «كررها مرة ثانية للتأكيد» ــ لم يفلت مرفق أو قطاع أو وزارة أو هيئة من الإفساد والتخريب ــ نحن نعانى من كارثة حقيقية، ولم نكشف ذلك إلا عندما رفع الغطاء ووجدنا كل هذا العفن الذى تفنن نظام مبارك فى إخفائه ــ جريمة مبارك الحقيقية تمثلت فى قتل الحياة السياسية والمجتمع المدنى ومحاصرة وإفساد القوى والأحزاب المدنية.
هذه العبارات ليس فيها أى افتئات على الرئيس الأسبق ونظامه. ورغم أنها لم تشر إلى الاستبداد وتزوير الانتخابات والنهب الاقتصادى والظلم الاجتماعى والعلاقات المريبة مع إسرائيل التى اعتبرت مبارك «كنزا استراتيجيا» لها، أقول رغم ذلك فإن القدر الذى ذكر كفيل بإدانة الرجل وبطانته. ويوفر ذريعة قوية لإطلاق شعار «الشعب يريد إسقاط النظام».
صبيحة اليوم الذى نشر فيه المقال تلقيت اتصالا هاتفيا من المستشار سمير حافظ المحامى ورئيس محكمة الاستئناف السابق قال فيه إن الكلام المنشور يثير العديد من علامات الاستفهام حول السر فى عدم محاسبة الرئيس الأسبق أو أحد من رجاله على جرائم الإفساد والتخريب التى نسبت إليهم.
الملاحظة مهمة وهى تسلط الضوء على جانب مسكوت عليه من ملف عهد مبارك وموقف الدولة العميقة من الثورة. ذلك أنه من الثابت أن الرجل لم يحاسب على الجرائم الحقيقية التى ارتكبها بحق مصر وشعبها والتى فجرت الثورة. وإنما ترك الحديث فى هذا الجانب لطنطنة وسائل الإعلام وثرثرة شباب الثورة. لذلك فإن التهم التى وجهت إليه هو وابنيه ومساعديه كانت ضعيفة ومتهافتة. أمَّا التهم الكبيرة ــ مثل قتل المتظاهرين ــ فقد جرى إضعافها واستبعاد أدلتها الحقيقية بحيث تتم تبرئة الجميع فى نهاية المطاف. على الأقل فذلك هو القدر الذى لمسناه حتى الآن، فقد تمت تبرئة مبارك وأولاده فى قضية القصور الرئاسية وألغى حكم إدانته فى قضية بيع الغاز لإسرائل. وبعد ما رأيناه وسمعناه من شهادات فى قضية قتل المتظاهرين فليس مستغربا أن يحكم فى 29 نوفمبر المقبل ببراءة مبارك ووزير داخليته حبيب العادلى ومساعديه، الذين حملوا عصر مبارك على أكتافهم طول الوقت.
إذا صح ذلك التحليل وقرر القضاء تبرئة مبارك وولديه ورجاله، فذلك يعنى أن الثورة لم يكن لها ما يبررها. وليس ذلك كافيا لأن البراءة تفتح الباب واسعا لتأييد الزعم بأن ما حدث فى 25 يناير 2011 لم يكن ثورة، ولكنه مؤامرة على مصر دبرتها أطراف عدة خارجية وداخلية. وهذا هو المعنى الذى حرص على تأكيده رجال مبارك. وهو ذاته الذى ردده المحامون، واستعانوا فى التدليل عليه بروايات ووقائع أحداث الثورة بعدما تمت صياغتها بصورة تلائم سيناريو المؤامرة. ومعروف أن تلك الصياغة اختلفت كليا عما توصل إليه تقرير لجنة تقصى الحقائق المحايدة، التى شكلت فى بداية الثورة برئاسة المستشار عادل قورة الرئيس الأسبق لمجلس القضاء الأعلى. ومعلوم أن بعض الإعلاميين المصريين ذوى الارتباطات المعروفة بالمؤسسة الأمنية لا يزالون يروجون لفكرة المؤامرة فى ثورة يناير. وحين قال أحدهم مؤخرا إن الرئيس السيسى حين وصف حدث يناير بأنه ثورة، فإنه كان يجامل الرأى العام، ولم يشأ أن يصدمه بإعلان الحقيقة، فإنه لم يكن يبدى رأيا شخصيا، وإنما كان يعبر عن صوت الدولة العميقة، التى كان لها الدور الأبرز فى صناعة الأحداث التى توالت خلال السنوات الثلاث الماضية. وهو السياق الذى أريد له فى النهاية أن يبرئ مبارك ورجاله ونظامه، وأن يضع الثورة فى قفص الاتهام لتطوى بذلك وتجهض أهم تجليات الربيع العربى.
ما عاد لدىّ تحفظ على استخدام مصطلح المؤامرة، لكن السؤال الذى أصبح من المهم أن نفكر فيه هو ما إذا ذلك ينطبق على ما جرى فى 25 يناير 2011 أم على ما أفضت إليه الأمور بعدها.
0 التعليقات:
Post a Comment