برحيل الدكتورة رضوى عاشور تنطفئ شمعة فى حياتنا وتتحول الشخصية إلى نموذج ملهم. فى ذلك الصباح الحزين الذين ذاع فيه خبر وفاتها اتصل بى هاتفيا أحد الأصدقاء ممن لا تربطهم صلة بها ولم يأت ذكر اسمها على لسانه طوال ثلاثين عاما على الأقل لكى يعزِّينى فى وفاتها. ووجدته يرجونى أن أصحبه معى لأداء واجب العزاء لأسرتها فى السرادق المقام لذلك الغرض. فوجئت بالاتصال ليس فقط لأن صاحبى كان أبعد ما يكون عنها، ولكن أيضا لأننى لم أكن على صلة وثيقة بها. مع ذلك فقد انتابنا نحن الاثنين الشعور بالحزن لوفاتها. وحين طالعت التعليقات التى وردت على تويتر بعد ذلك لاحظت أن شبانا أعرفهم وآخرين لا أعرفهم يتبادلون العزاء فى وفاتها ويعبـِّرون عن شعورهم بالحزن لغيابها. استوقفنى أيضا أن ما من صديق اتصل بى هاتفيا خلال اليومين التاليين إلا وبدأ حديثه بالترحم على الدكتورة رضوى وترديد عبارات العزاء فى وفاتها.
فاجأتنى الظاهرة. إذ اكتشفت أننا صرنا نعزى بعضنا بعضا وأننا جميعا ــ دون أن نشعر ــ صرنا جزءا من أسرتها الكبيرة بغير اتصال ولا نسب. أدركت حينذاك أننا نحن المصابين ولسنا المعزِّين، وأن غيابها أحدث فراغا فى وجدان كل واحد فينا. وهو ما جعلنى استحضر العبارة التى يستخدمها المتصوفة فى وصف مقامات العارفين، إذ يقولون عن الواحد منهم إنه «إذا غاب حضر». بمعنى أنه مادام موجودا فإنه بتواضعه وأدائه يصبح جزءا من حياة الناس ألفوه واعتادوا عليه، لكنهم لا يدركون قيمته وعمق تأثيره فى حياتهم إلا حين يغيب عنهم. فيستشعرون فداحة خسارتهم جراء ذلك الغياب.
لم تكن الدكتورة رضوى عاشور من نجوم المجتمع. فلا هى من زبائن البرامج التليفزيونية، ولا هى من كتاب الصحف اليومية، وقد فشلت محاولاتى لإقناعها بالكتابة الأسبوعية أو الشهرية. وكانت تحتج دائما بأن لديها شواغل أخرى، لكن الشىء الوحيد الذى انتظمت فيه وحرصت عليه كان دورها كأستاذة تربى وتعلم الأجيال الجديدة من الشبان والفتيات إلى جانب أعمالها البحثية وكتاباتها الإبداعية. وظل جل همها أن تقوم بدور المثقف المناضل صاحب الرسالة الذى يعيش فى قلب المجتمع، وليس النجم الذى يطل على الناس عبر شاشات التليفزيون ولا يظهر إلا فى الحفلات ومواكب الأضواء محاطا بالحراس والمعجبين. لذلك لا يكاد يرى المرء لها صورة فى المهرجانات الصاخبة أو فى صفحات المجتمع المخملى. لكنها لم تكن تـُرى إلا وسط طلابها أو فى مسيرات الأساتذة الذين انخرطوا فى حركة 9 مارس المدافعة عن استقلال الجامعات أو فى المظاهرات الاحتجاجية التى تطوف بالشوارع والميادين أو فى اجتماعات الدفاع عن الثقافة العربية ومقاومة الصهيونية...الخ.
فى كل مشهد إيجابى أو موقف وطنى ونضالى كانت رضوى عاشور هناك. وهى بذلك ضربت نموذجا للمثقف حين يتحول إلى ضمير حى بحيث تظل بوصلته منضبطة طول الوقت على الاتجاه الصحيح، فيوظف معارفه ومواهبه وطاقاته الإبداعية لكى يخدم قضيته، وهو ما لاحظته فى مسيرتها العلمية، حيث كانت أطروحتها للدكتوراه التى أعدتها فى سبعينيات القرن الماضى بالولايات المتحدة حول الأدب الأفريقى الأمريكى، ثم شقت طريقها بعد ذلك مواصلة كتاباتها عن فلسطين والأندلس وهموم العرب والمصريين وصولا إلى مظاهرات ثورة 25 يناير.
حين قـُدمت بحسبانها «روائية» فإن ذلك سلط الضوء على جانب واحد من جوانب إبداعها، أعنى أن ذلك كان صحيحا لكنه لم يكن كافيا، لأن عطاءها تجاوز تلك الحدود إلى آفاق أخرى أرحب وأوسع، ناهيك عن أن الروائيين كُثر وأساتذة الجامعات أكثر منهم. لكن ليس كل روائى أو أكاديمى صاحب موقف أو قضية. بل ان تجربتنا فى مصر كشفت الستار عن نماذج من هؤلاء وهؤلاء صاروا خصما على الثقافة وليس إثراء لها، كما أصبحوا عبئا على المجتمع وليسوا إضافة إليه.
قبل أن تصبح رضوى عاشور روائية كبيرة كانت مثقفة شريفة ونبيلة، حملت قضيتها طول الوقت ولم تتخل عنها أو تساوم عليها رغم ما تعرضت له هى وأسرتها من ضغوط وابتلاءات. وظل اهتمامها الإنسانى والعروبى والوطنى هو مجالها الحيوى الذى نذرت نفسها للانحياز إليه والذود عنه.
فى لحظات التيه وحلقات المزايدة وأمام بريق الغواية التى استسلم لها كثيرون، ظلت رضوى عاشور مستعلية وشامخة وثابتة القدم، تحتضن من حولها وتوزع عليهم ابتسامتها العذبة وتغمرهم بمعين محبتها الذى لا ينضب، وكأى ضمير حى يمشى على قدمين فإنها ظلت مهجوسة بقضايا الوطن والأمة، مثلما ظلت تضرب المثل فى الشجاعة والإقدام والانحياز لكل ما هو شريف ونبيل فى حياتنا، ولأجل ذلك فإنها رفضت الاستقطاب والانخراط فى المعارك الصغيرة، وبقيت طول الوقت متفائلة بالمستقبل ووفية للحلم الذى تآمر الجميع عليه وعملوا على إجهاضه.
ما يحزننى ليس فقط أن الموت غيبَّها، ولكن أيضا أن مقعدها فى كتيبة الوطنيين النبلاء سيظل خاليا إلى أجل غير معلوم، فضلا عن أن كتيبة النخبة ذاتها باتت معرضة للانقراض. ليتنى عرفتها أكثر.
0 التعليقات:
Post a Comment