يبدأ الأستاذ الأكاديمى حواره الأول مع طلاب الدراسات العليا بالجامعة المصرية بالتعريف بنفسه، وبالتأكيد على رغبته فى حوار حقيقى وتفاعلى مع الحضور وعلى تقبله للتعليقات الفورية وللأسئلة المباشرة وللمقاطعة المتكررة، ثم يتبع ذلك بالجملة التالية:
منذ عقود طويلة، ومصر تتجاذبها الرؤى والأفكار الرجعية، ومجتمعها يعجز عن صناعة التقدم، وحكامها يرفضون التأسيس لإدارة ديمقراطية مكوناتها سيادة القانون وتداول السلطة ومواطنة المساواة الكاملة وصون حقوق وحريات الناس، والآن..
تستأذن طالبة جالسة فى الصفوف الأمامية فى التعليق وبصوت مرتفع:
أعرف هذا، بل نعرفه جميعا. لا جديد فى الأمر. فالخرافة والجهل والتطرف هى بدائلنا للعقل والمعرفة والعلم. وتذكرنا أزمات التأخر والفقر والبطالة والأوضاع المعيشية السيئة والهوة الساحقة بين من يملكون ومن لا يملكون يوميا بعجزنا عن التقدم الذى ينقل لنا الإعلام مظاهر تمتع الآخرين به وتضع التكنولوجيا الحديثة بعض منتجاته فى أيادينا كمستهلكين. وبغض النظر عن اهتمام بعضنا بقضايا الحكم والسلطة وسأم البعض الآخر منها، وبغض النظر عن التباين الحاد فى مواقفنا من الحكم الراهن ندرك أن الممارسة الديمقراطية غائبة. نعرف كل هذا، ويكفى أن تحرك عينيك بسرعة بين صفوفنا أو توجه بصرك لوهلة إلى ما وراء نوافذ هذه القاعة وما وراء أسوار الجامعة لتتثبت ونتثبت معك من صدق مفردات جملتك الأولى. غير أن سؤال وجودنا الحقيقى هو باختصار: والآن، ماذا بعد؟
ماذا نحن فاعلون اليوم وغدا إزاء أزماتنا المستمرة؟ وكيف السبيل للتغلب عليها واكتشاف إمكانية القضاء على الخرافة والجهل وتحقيق التقدم والديمقراطية؟ وكيف نعيد للناس الأمل فى المستقبل الأفضل والحراك العظيم خلال السنوات الماضية لم يسفر عن شىء ومشاهد الدماء والضحايا والدمار تلاحقهم وتلاحقنا؟ وما هو الدور الذى نستطيع كطلاب وشباب القيام به ونحن فى أفضل الأحوال لا يستمع إلينا وفى أسوأها نقمع ونتعقب، ولا يشار إلينا إلا ككتلة صماء وبالصيغة الأبوية والسلطوية المعتادة «الدولة عازمة على تشجيع مشاركة الشباب»؟ وعلى من نعول خارج أسوار الجامعة، والسياسة أميتت والمجتمع المدنى محاصر ونظريات المؤامرة تسيطر على المجال العام؟
أعتذر عن الإطالة، إلا أن سنوات دراستى العليا ستنتهى مع نهاية العام الدراسى الحالى، ولا أعلم إلى أى مصير سأغادر الجامعة ولا أملك إجابات واضحة على أسئلة الناس خارج أسوارها.
•••
تصمت القاعة، تتعطل لغة الكلام لدى الأستاذ الأكاديمى الذى يرى عجزه عن تجاوز حدود نقد الواقع المصرى باتجاه صياغة حلول فعلية لأزماته مجسدا فى هيئة هذه الطالبة صاحبة الصوت الجهورى وفى صمت القاعة المحيط به، تنهى لحظة الصمت طالبة أخرى:
إذن، لنترك الحلول والإجابات للدولة ومؤسساتها وأجهزتها، وندع الحكام يديرون شئوننا، فهم بالفعل أعلم بها وبنا. لا تمتعضوا من كلامى الرجعى. وقد كنت فى السابق، تحديدا فى الفترة التى تلت 25 يناير 2011 مباشرة، أعارضه بشدة وأطالب دعاته من كبار السن ومتوسطى العمر فى محيطى الأسرى بالتوقف عن انتظار حلول وإجابات سلطوية تأتى من أعلى، من قصور الرئاسة ومقار الوزراء. كنت أذكرهم بفشل الحكام والحكومات المتعاقبة فى تخليصنا من شرور الجهل والفقر والبطالة وفشلهم فى إيقاف تأخر مصر وانتهاكاتهم المتكررة لحقوقنا وحرياتنا، وأطالبهم بالثقة فى الناس الذين خرجوا فى يناير ينشدون مصر المتقدمة والعادلة والمتسامحة وبالثقة فى من سيدفع الناس بهم إلى مقاعد الحكام الجدد والحكومات المنتخبة. ثم ماذا حدث؟ صدمات وإخفاقات متراكمة!
وأنا لا أريد هنا، لا من أستاذنا المحترم ولا منكم زملائى، آراءكم التفصيلية إن بشأن «الأسباب الحقيقية» لتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأمنية خلال السنوات الماضية أو بشأن «الأسباب الحقيقية» للصراعات السياسية وللحسابات الضيقة التى سطت على الوطن وأخافت المواطن وهددت سلم المجتمع الأهلى وشلت فاعلية بعض مؤسسات وأجهزة الدولة وعطلتها عن العمل. بحكم دراستى لعلم الاجتماع وللسياسة، أدرك على الأقل جزئيا هوية هذه «الأسباب الحقيقية» وأعلم عن بعض تفاصيلها فى حالتنا المصرية.
غير أن فشل القوى والتيارات المتنوعة التى قدمت ذواتها للناس بكونها تجسد الطلب الشعبى على الحق والحرية والكرامة الإنسانية، على التقدم والعدل والتسامح، على الديمقراطية فى منع تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأمنية وفى إنهاء الصراعات السياسية، أو بعبارة أخرى فشلهم فى التغلب على «الأسباب الحقيقية» والانتصار على «المتشبثين بها» طلبا للعودة إلى سلطوية ما قبل يناير 2011 هو دليل ضعف ووهن بالغين لهذه القوى والتيارات وعنوان غياب أهليتها بشأن إدارة شئون المواطن والمجتمع والدولة باتجاه ديمقراطى.
وتستوى فى الضعف والوهن وغياب الأهلية قوى وتيارات اليمين الدينى التى فرضت على الوطن ومجاله العام بين 2011 و2013 باستعلائها ونزوعها للسيطرة المطلقة صخبا متوهما بشأن الدين وموقعه من الحكم والسلطة وباعدت بيننا وبين النقاش الجاد حول القضايا الحقيقية للتقدم والعدل والديمقراطية، وكذلك قوى وتيارات اليمين واليسار التى ليس لها من فكرة «السياسة المدنية» إلا الادعاء المجرد من المصداقية ودوما ما تخضع مبادئها الليبرالية والديمقراطية المعلنة للأولوية النفعية للتحالف مع الحكام إما طلبا للحماية من القمع ولشىء من الحضور فى المجال العام ولشىء من الغنائم فى المساحات التشريعية والتنفيذية أو رغبة فى التخلص من أضدادها فى اليمين الدينى، وإن على حساب سيادة القانون والحقوق والحريات.
لذلك، ومع الاعتذار لكم جميعا، لم أعد أتحرج بعد صدمات وإخفاقات السنوات الماضية من استدعاء حكمة كبار السن ومتوسطى العمر فى محيطى الأسرى، بل وحكمة الكثيرين خارج أسوار الجامعة. لم أعد أتحرج من رفع صوتى مع أصواتهم للمطالبة بأن تترك الحلول والإجابات للدولة ومؤسساتها وأجهزتها، بل ــ ولتعذرونى مرة أخرى على اللغة الذكورية ــ لرجالاتها!
•••
تصمت القاعة مجددا، ومع التلعثم البادى على الأستاذ الأكاديمى يأخذ الكلمة طالب خفيض الصوت:
هل تعتقدون فعلا أن لدينا كطلاب وشباب إمكانية حقيقية للمشاركة فى تحديد وجهة الوطن اليوم وغدا؟ هل تعتقدون فعلا أن اختياراتنا، إن بتفضيل ترك أمورنا «للدولة ورجالاتها» أو بالبحث المستقل عن حلول وإجابات قد تبتعد عن حلول وإجابات المؤسسات والأجهزة الرسمية وتقترب من رؤى وأفكار المجتمع المدنى بشأن التقدم والعدل والتسامح والديمقراطية، سيكون لها وإن القليل من حظوظ التأثير فى صياغة حاضر ومستقبل مصر؟ أختلف معكم تماما!
اسمحوا لى أن أوظف ذات الإحالة إلى «نوافذ قاعتنا» التى تطلعنا على من هم خارج أسوار الجامعة لكى أذكركم أن أغلبيتنا الساحقة بشبابها ومتوسطى العمر وكبار السن تعانى على نحو غير مسبوق من الفقر والبطالة وانهيار الأوضاع المعيشية ومستويات الخدمات الأساسية. لم تعد أبدا لا المناطق العشوائية الخالية من مياه الشرب النقية ومن نظم الصرف الصحى التى يسكنها ملايين الناس، ولا الموت الطوعى للشباب على ظهور مراكب الهجرة غير الشرعية هربا من واقع كارثى نزع عنا جميعا الأمل، ولا سطوة الجهل والخرافة والتطرف وسيطرتها على تفاصيل حياتنا اليومية بظواهر استثنائية نتوقف أمامها بعمق حين تحدث أو تقض أنباءها مضاجع الحكام فيطلقوا الوعود المتتالية «بقرب التغلب عليها» ويندفع المجتمع المدنى لإعلان «برامج» للقضاء عليها.
بل أن مشاهد الدماء والأشلاء والخراب ما عادت تبكينا وتحزننا طويلا، نحن شعب مصر المسالم وكاره العنف والباحث عن الاستقرار منذ قديم الأزل ــ ألا تدعى ذلك كل رواياتنا التاريخية؟ ويتراجع يوميا شعورنا نحن الطلاب والشباب بالألم إزاء الأخبار المتواترة عن مظالم وانتهاكات وعقوبات قاسية وسطوة أمنية تتنامى، وندرك جميعا علاقة الارتباط الكارثية بين السطوة الأمنية المتنامية وبين جرائم عصابات الإرهاب وممارسى العنف ومروجى التطرف الذين يستبيحون بالفعل حقنا فى الحياة، ونتوقف بحثا عن جر الخطوط الفاصلة بيننا وبين الآخرين جميعا وعن ملاذات آمنة لا تعرض نفسها علينا!
فى مثل هذه الظروف، وعلى الرغم من عجز الدولة ورجالاتها الذى لا يختلف عن عجز القوى والتيارات السياسية والمجتمع المدنى، ليس لنا اليوم كطلاب وشباب ولا لغيرنا من ضعفاء وفقراء ومهمشى هذا الوطن، ولو القليل من حظوظ التأثير فى صياغة الحلول والإجابات كما تقولون. والإحالة المعتادة إلى كوننا كشباب نمثل أغلبية المصريات والمصريين وإلى كون طموحاتنا للتقدم والعدل والتسامح والديمقراطية ستفرض نفسها على الوطن كمصيره المحتوم فى نهاية المطاف تفتقد المصداقية، باختصار لأننا كشباب لسنا كتلة صماء.
•••
يتجدد الصمت فى القاعة، ويقترح الأستاذ الأكاديمى استراحة لالتقاط الأنفاس، وأنفاسه هى التى تلهث معترفة بعجزه ومستجدية بعض الكلمات القابلة للتراص أو بعض مقدمات الأفكار المترابطة من عبارته الأثيرة.. لا عاصم لنا اليوم إلا بإعمال العقل!
0 التعليقات:
Post a Comment