وقال المصدر الذي فضّل عدم ذكر اسمه، إن هيكل لم يتردد في القول إنه إذا خُيِّر بين "الثكنة"، تعبيراً عن الحكم العسكري، والمسجد، فإنه سيختار "الثكنة". وحين ذكّره أحد محاوريه؛ وهو من النخب ذات الأصول العربية، بالخيار الديمقراطي، رد ساخراً بالقول "أسكت يا عم، إنت أصلك ما تعرفش إيه الحكاية"، مضيفاً "أنا مع الثكنة".
الكاهن الأكبر في هذا السياق يطل علينا، في كل مرة، إطلالته الغريبة والعجيبة بـادعاء الحكمة والنصيحة، وهو الذي يطلق كلماته الخبيثة من شجرة تأليفاته الخبيثة. في كل مرة، يطل علينا بتصريح أو حديث أو مقال، بعد أن ادعى، في يوم من الأيام، أنه قد اعتزل الكتابة والسياسة، وآن له أن يستريح، لكنه، في كل مرة، يتحاور فيها مع شيطان نفسه، يبادر بالحديث وبالكتابة، ويجدد حضوره، ويخرج بالتصريحات ويقيم المواقف. لقد أدمن هذا الوضع، إذا تحدث، انتظر الجميع ماذا يقول الأستاذ، وبماذا يتفوه، هكذا يصطنعون الصورة، إنها كلمات الكاهن الكاهنة التي يحاول، من خلالها، أن يساند استبداداً، أو يؤمن فساداً؛ هذا حال الكاهن الأكبر مع المستبد الأكبر.
وفي افتعال غريب، يحاول أن يثبت أنه محور الكون، وأنه العارف بكل أمر، المتبصر بكل شأن، المستشرف لقادم الأيام، يضفي، من خلال هذا القول الرمزي، طبيعة صراع بين مؤسسات ليست من جنس واحد، ولا تعمل في مساحات واحدة، أو ساحات متشابهة متقاطعة، اللهم إلا حينما يقف العسكر، يحرس بعض المساجد في مناسبات خاصة، أو يُستدعى أحد المشايخ إلى وحداتهم العسكرية، ليقوم بوعظ جنوده، كيفما اتفق، مع الشؤون المعنوية. وهو في هذا المقام، حينما يخير نفسه، ويفرض خياره، فيختار "الثكنة" عوضا عن "المسجد"، فإن ذلك أمر يتوافق مع ثوابته التي يريد، دائماً أن يصور نفسه الخبير الذي لا يشق له غبار، ويكشف المستقبل وغيوبه، من خلال تحليلاته التي لا يمت بعضها إلا عن انطباعات مرسلة، أو التعبير عن داعية هواه، فلماذا اختار "الثكنة" و"المسجد" على وجه الخصوص، هل لأنه معني بمسألة السلطة على عموم الناس؟ وهو يجد في سلطان العسكر، وبصورة تلقائية، إقصاء للدين، واستبعادا له، أم أنه لا يريد أن يرى لرؤية إسلامية أثراً في حياة الناس، من جراء علمانية فجة، تمكنت من قلبه وسلوكه، قبل عقله ولبه.
تلك الرمزية التي يريد الكاهن الذي تخطى التسعين من عمره، وما زال يتحدث مع الناس عن المستقبل، وعن كل أمر يتعلق بالنظام المفضل، ومنظومة السلطة التي يجب أن تحكم وتتحكم، ويجعل إطار الصراع القائم والدائم بين "الثكنة" و"المسجد"، وكأنه القدر المحتوم، والخيار المأزوم الذي لا يملك، في النهاية، إلا أن يكون في ومع "الثكنة" العسكرية وعسكرها، ولا يكون في "المسجد" أو رمزه. وأقول له: بالله عليك، ألا ترى أن هذه المفارقة، بل والمناقضة التي تقوم بها لإذكاء الصراع الذي لا تريد له أن ينقطع، وتجعل منه مهمة للعسكر، يتجدد من يحملونها منهم للقضاء على المسجد، أو محاصرته، واستبعاده، لأنه وفق تحليلك "المريض" هو ضد "الثكنة" وضد المؤسسة العسكرية، ولو بحثت عن حقيقة الأمور، لوجدت أن هذه "المناقضة" التي افترضتها لا تقوم على أصل أو أساس، ونسيت أن "المدني" يكون في مواجهة "الديني" فحسب، حينما يتحول إلى تفويض إلهي على طريقة الخبرة الغربية، وأن المدني، بالأساس، هو في مواجهة العسكري، إلا أنك أردت أن تبقي على صراع وتؤججه، وأن تجعل من المدني والعسكري تحالفاً، لا صراعاً وفقا لما ترغب وتهوى.
وأقول أيضاً: حينما تتحدث عن "ثكنة" و"مسجد"، تغفل أن كلتا المؤسستين تعبر عن ضرورة أساسية ومجتمعية، لا يمكن بحال أن نصادر إحداهما لمصلحة الأخرى، فما بالك، أيها الكاهن المستعظم، لو جمعنا بين "ثكنة" من يقوم عليها يقوم بحق وظائفها، يقوم بها في حقها في حماية الحدود والوجود والجنود، لا ينخرط في مجال السياسة، أو يتغول على مساحاتها، مفترضاً أنه يملك أسلحة القوة والصولجان. يحاول بها أن يكون السلطان، ويتحول إلى حاكم متحكم، متغلب مستبد، يقوم بكل ما من شأنه ترويع الناس والاستبداد بشأن حياتهم المدنية. أما "المسجد" فله، أيضاً، وظيفته ودوره من الطبيعي ألا تعلمها وفق قناعاتك التي لا ترى المسجد إلا ضرراً ماحقاً ومحققاً، لكن المسجد، وفيه حياة الناس وتدريب المجتمع على منظومة قيم تؤصل لعلاقات سوية آمنة ومكينة ورصينة، وتسمو بهذه العلاقات لخير الناس وخير المجتمع العام. ولكن، هيهات هيهات أن تتفهم ذلك، وقد ترصدت له، واتخذت من "مؤسسات ضرار" سنداً، تحاول بها أن تهدم المسجد، كياناً ووظيفة.
ما بالك تروج، في سوق نخاسة الأفكار وخداعات الكهنة، هذه الثنائيات النكدة، ولا تُسند لكل مؤسسة وظائفها، وأن تقوم بأدوارها المعتبرة بحقها، وفي مقامها وبشروطها، لكنك نسيت في المعادلة أمراً مهماً دائماً تهمله، يا من كنت دائماً تتزلف عتبات السلطان، وتقف بباب العسكر ناصحاً، وما أنت بناصح، أين إذاً "الناس" في معادلتك؟ يا صاحب "الثكنة" وكاره "المسجد"؟ أين عموم الناس؟، أي أين "الشعب" في معادلتك؟، وأين الشباب في معادلة المستقبل التي تطل، كل مرة، لتركب مركبته وتوجه دفته؟ اذهب أيها الكاهن غير مأسوف عليك، فما هذا بعصر للكهنة، لكنه عصر الثورة، إنه عصر الشعوب ذات الإرادة الحرة، وليس عصر "الثكنة".
0 التعليقات:
Post a Comment