عزيزي الطفل ابن السيدة الفقيرة: احمد ربنا أنها عدّت على خير، ولم ينته الأمر باعتقال والدتك، أو قتلها برصاصة ضابط يحب ضغطة الزناد، لينتهي بك الحال مرمياً في إصلاحية تفسدك، أو إكسسواراً يتناوبه شحاتو الإشارات، أو مُباعاً بالجملة لأسرة ثرية، أو بالقطاعي لهواة جمع الأعضاء الغضّة.
ما فعلته أمك  كان مخاطرة غير مأمونة العواقب، يسمونها في دنيا المسرح: الارتجال، يرى بعضهم أن وجود الكاميرات حمى والدتك من التعدي والإهانة، لكنني أظن أن وجودك هو الذي حماها، فعيناك الزائغتان الخاليتان من لمعة الحياة، ككهل مرهق مكدود، جعلتا لخروج أمك على النص معنى مختلفاً، أربكا مَن على الخشبة، فجميعهم يحبون أمك وأمثالها فقط، حين يرقصن أمام اللجنة الانتخابية في "الأعراص الديمقراطية"، يحبون ذلك "التيب"، حين يحتضن صورة رئيس، أو يمسك ببيادة، وينهال تقبيلاً عليها، أو يتقصع على أغنية تهز الوِسط من فرط حب مصر. وقتها، كانت أمك ستحمل في المسرحية اسم "سيدة شعبية أصيلة"، وكنت سأناديك وقتها: عزيزي الطفل ابن السيدة الشعبية الأصيلة.
صدقني، كان سيتم استقبال والدتك بشكل أفضل، لو دخلت على المشهد خافضة الصوت، دامعة العينين، وانحنت مقبلة أيادي هوانم الوقفة، لكنها دخلت زاعقة ومطالبة بحقوقكما، وجمهورنا العريض لا يحب للفقراء أن يزعقوا، حين يطالبون بحقوقهم، يحبونهم زاعقين فقط في أغنيات الأفراح الشعبية، أو في مشاهد الردح المضحكة، أو في مشاهد البلطجة التي جعلها الله سبباً لأكل عيش كثير من ضيوف البرامج. لا أدري في ماذا كنت تفكر، وأنت تسمع بعض السيدات يصحن في والدتك: "جاية تغيري الموضوع ليه.. كفاية بقى.. مين اللي بَعَتك"، لا أتصور أنك غضبت، لأنهم كانوا يزعقون في والدتك، من أجل كلب، ففطرتك لم تلوثها دنيانا بعد بكراهية الكلاب، حين تأملت في انقباض ملامح وجهك، بدا لي أنك متضايق، لأن الزعيق يجعلك تشعر بألم غير مفهوم في رأسك.
ستكبر غداً يا عزيزي، وستعرف أن ذلك الألم يسمونه الصداع، وسيصبح جزءاً من حياتك المديدة، حتى بعد شفائك، وستعرف، أيضاً، أن ما جرى يومها لم يكن موجهاً ضد شخصك أو شخص أمك، وأنه كان سيحدث لكل من لا يرتدي بدلة ضابط. لا أظن أنك ستصبح ضابطاً يوماً ما، لكي تجرب ذلك بنفسك، فمنذ أن قام ضباط من أبناء الفقراء في مصر بثورة لمنع التمييز الطبقي، لم نعد نرى كثيراً من الضباط من أبناء الفقراء، بدعوى الحفاظ على هيبة البدلة الميري. عموماً، ستكون لديك فرصة كبيرة أن تصبح أمين شرطة، لتجرب ما أحدثك عنه.
فرحت جداً حين قرأت أن سيدة من الموجودات في الوقفة تألمت لما جرى لك، فساهمت في إدخالك إلى مستشفى أم المصريين، لكن ذكرياتي المريرة عن المستشفى، منذ عشرين سنة، قضت على فرحتي، فراودني أمل في أن تكون أحواله قد تغيرت، لكن ذلك الأمل تبدد، حين رأيت صوراً لطفلة دخلت إلى مستشفى الهلال، لتجري عملية إزالة اللوز، فخرجت مصابة بنزيف دائم قضى عليها، ستلازمني صورة ملابسها الغارقة في الدماء ما حييت، مثلما سيلازمني منظر عينيك المرهقتين، مثلما سيلازمني منظر المهندس هاني الجمل، وقد حلقوا له شعره، وأوقفوه كمجرم عتيد ليأخذ صورة السجن، لأنه شارك في وقفة من أجل الحرية، لم يكن فيها هوانم، ولا كلاب شوارع، ولا كلاب مدربة، ولا كلاب شرطة، لكنني سأرتكن إلى أمل يعصمني من التصدع، أتخيل فيه أنك ستجد طبيباً جدعاً فاهماً، إن لم يجد لعلّتك شفاءً ناجعاً، فسيلبي أمنية والدتك بأن تفهم ما الذي أصابك.
آسف، إذا كنت قد ضايقتك بتكرار سيرة الأمل. أعرف أن مجرد نطق اسمه يحدث في رأسك نفس تأثير الزعيق. منذ عشرين عاماً، قرأت ديواناً جميلاً لشاعر شاب، اسمه جرجس شكري، كان عنوانه (ضرورة الكلب في المسرحية)، والأمل، يا عزيزي الطفل، ضروري، لأي مسرحية، مثل الكلب، ومثل الطفل الرضيع ابن السيدة الفقيرة، ومثل الهانم الغاضبة على الكلب الذي قتلوه بوحشية، ومثل زوجة كل مواطن قتلوه، أو عذبوه، كالكلب، من دون أن يستوقف ذلك أحد، ومثل كل من يبكي على كل قتيل وكل معذب، ومثل من لا يبالي، كلنا ضروريون لكي تكتمل المسرحية، التي ألعب فيها أنا دور من يكرر كلمة الأمل، بين حين وآخر، لأن تكرارها يحدث بالإيحاء تأثيراً قد يؤدي إلى تأخير اللحظة التي نمسك فيها جميعنا بسواطير، وننهال على بعضنا تقطيعاً، كما حدث للكلب الذي ارتجلت أمك، وقاطعت وقفة التضامن معه.
عزيزي الطفل ابن السيدة الفقيرة: سيظل الأمل ضرورياً في المسرحية.

العربى الجديد

0 التعليقات:

Post a Comment

 
الحصاد © 2013. All Rights Reserved. Powered by Blogger Template Created by Ezzeldin-Ahmed -