في حواره الأخير مع صحيفة "واشنطن بوست"، أدلى السيسي بتصريحات، لو كان سيئ الذكر مرسي قالها أيام حكمه، لأصيب مذيعو برامج التوك شو بالفُتاق الإربيّ، من فرط الزعيق حسرة وأسفاً على الرئيس الذي يهدر كرامة مصر، ويغازل عدوها الإسرائيلي، ويتسول رضا الشيطان الأميركي، وما شابه ذلك من عبارات الوطنية الحنجورية، التي سبق أن انهالوا بها على مرسي، بعد واقعة خطاب (عزيزي بيريز)، التي كان كل عاقل يعلم أنها لم تكن أكثر من حماقة سياسية، كان من المهم تسليط الضوء عليها، لإظهار تناقض فكرة الخطاب ومضمونه مع ترديد الإخوان شعارات جوفاء مثل (عالقدس رايحين شهداء بالملايين)، ليفهم من تأثروا بتلك الشعارات من البسطاء مدى تعقيد الواقع السياسي الذي يتطلب رؤى شاملة وجادة للتعامل معه، بعيداً عن "العنتريات التي ما قتلت ذبابة"، لا أن يتم تصوير ذلك الخطاب البروتوكولي، بوصفه خيانة عظمى، وكأن مرسي كتبه، وهو نائم في أحضان شيمون بيريز.
والآن، وبعد أن انكشف وبان سر الأذرع الإعلامية التي تحركها سياسة "بتكتب ورايا يا أحمد"، لم يعد غريباً ألا نسمع لكل تلك الحناجر الزاعقة حسّاً، يعلق على إعلان السيسي في حواره، مع محررة "واشنطن بوست"، أنه يتحدث مع بنيامين نتنياهو كثيراً، وأنه سعيد بزيادة حجم الثقة والتعاون بين مصر وإسرائيل، والذي جعل إسرائيل تسمح لمصر بتحريك قواتها في شرق ووسط سيناء، وتتجاوز عن شروط اتفاقية كامب ديفيد، "مما يعني تضاؤل مناخ العدائية والشك مع إسرائيل"، حسب قوله، فضلاً عن تطوعه المجاني بإعلان تفهمه الموقف الإسرائيلي من القنبلة النووية الإيرانية، وتحويله إجابة لسؤال عن أسباب استيراد مصر أسلحة من روسيا، إلى رسالة عتاب لأميركا، مؤكداً أنه فعل ذلك لأنها تأخرت في دعمه، وأنه ينتظر منها الكثير لتدعمه كممثل للإرادة الشعبية، مطالباً قيادتها ـ على طريقة (خدوا عيني شوفوا بيها) ـ ألا تنظر إلى قمع الحريات بعين أميركية، لأن مصر تحتاج إلى 200 سنة لتطوير الديمقراطية كما حدث في أميركا، حاشراً في وسط كلامه معلومة مضلِّلة، بأنه أطلق سراح 120 سجيناً، ليوحي للأميركان بأنه أفرج عن معتقلين سياسيين.
في هذا الحوار، وكسائر حواراته مع الإعلام الغربي، لن ترى أثراً لما تروجه أذرع السيسي الإعلامية، وأرجُله السياسية، عن صورة الأسد الهصور الذي يحارب مؤامرات الجيل، الرابع والخامس و"الساتت"، ويحبط المخططات الأميركية والإسرائيلية لتقسيم مصر، ويتحالف مع روسيا لمرمغة مناخير العم سام في الوحل، ويعتقل المعارضين له لتآمرهم مع إسرائيل وأمريكا، لن تجد إلا استجداءً للدعم المالي والسياسي، مصحوباً بتنويعات على نغمة حسني مبارك "أنا أو الإرهاب"، وتبريراً لتغير موقفه من الإخوان الذين لم تكن لدى السيسي مشكلة مع أفكارهم، حين كان حليفهم لأكثر من عامين، تماماً كما لا يمتلك مشكلة، الآن، مع حلفائه السلفيين، الذين يروجون أفكاراً تفوق أفكار الإخوان تشدداً وقبحاً.
يراهن السيسي على حاجة الغرب إليه. ولذلك، يصر على تقديم نفسه له في صورة مندوب مبيعات الاستنارة، ومُطهر سماء الشرق من الملتحين قاطعي الرؤوس، ليحل محلهم نموذج المتدين حليق الذقن، الذي يعشق الأوبريتات والباليه، ويهوى جمع المثقفين والفنانين، ويبني المساجد الفخمة، في الوقت الذي يقتل فيه المئات في الميادين، ويحرق المساجين أحياء في عربات الترحيلات، ويسمح لمماليك أمنه وإعلامه بهتك أعراض خصومه واستباحة حرماتهم، وكأن سياساته الباطشة تلك لن تجعل لداعش، وغيرها، نصيراً أو ظهيراً، في كل بيت به مظلوم أو مقهور.
ختاماً، وبنظرة شديدة الواقعية، ربما لا يكون هناك غنى عن قيام أي سياسي في الدنيا بالمراوغة والتلاعب بالألفاظ، بل وحتى الكذب والخداع. لكن، وبنفس تلك النظرة الواقعية، حين يكون الكذب والخداع والمراوغة، كل ما يملكه السياسي من دون منهج واضح للحكم أو خطط محسوبة أو رؤى استراتيجية أو مهارات غير القتل والقمع، فابقى قابلني لو فَلَحت الدولة التي يحكمها.
وما حسني مبارك منكم ببعيد. -
0 التعليقات:
Post a Comment