حين يعود الإنسان إلى سجل ثورتنا بعد تنحى الرئيس وحتى الآن يجد أنها ثورة حكمتها التفاعلات التلقائية التى تعبر عن عشوائية وارتجالية تسيطر على حياتنا أصلا حتى قبل الثورة. والنتيجة فرص ضائعة وتكاليف مرتفعة وشكوك متبادلة. خذ مثلا مطالب ثم قرار تأجيل الانتخابات من يونيو 2011 إلى ديسمبر 2011، وهو القرار الذى ترتب عليه أن خرجنا عن خريطة الطريق تماما بعد أن كان الخروج الأول هو عدم الالتزام بتعديلات دستور 1971 والإبقاء على هذا الدستور بتعديلاته باعتباره دستور المرحلة الانتقالية ثم نكتب دستورا آخر فى ظل مؤسسات منتخبة وبإخراج القوات المسلحة من اللعبة السياسية. لكن هذا لم يحدث، وفقدنا ميزتى الاستقرار المؤسسى والتعجيل بإحلال الجديد محل القديم. وها نحن ندفع الفاتورة حتى الآن.

ونأتى لشكل النظام الانتخابى الذى ترتب عليه فى النهاية أن أخذنا بنظام ثلثين للقوائم وثلث للفردى مع حق الحزبيين فى الترشح على المقاعد الفردية رغما عن التحذيرات المتعددة من أن هذا النظام يتناقض مع ما استقرت عليه التقاليد الدستورية وفقا للمحكمة الدستورية، وقد قلتها بأعلى صوتى كتابة وحديثا بأن القوى السياسية بهذا تضع حبل عدم الدستورية حول رقبتها وسيشده من يريد، وقد كان. وقدمت آنذاك فكرة القائمة النسبية غير المشروطة مع المزج وفوجئت بأن ممثل وزارة الداخلية آنذاك فى لجنة الانتخابات التشريعية تحمس لها جدا، ولكن بدا وكأن حماسه دليل على أن النظام «مفخخ» بشكل أو بآخر وأنه سيفضى حتما إلى فوز الطرف الآخر. ظن الإسلاميون أنه سيفضى إلى فوز الليبراليين، وظن الليبراليون أنه سيفضى إلى فوز الإسلاميين، وظن الثائرون أنه سيفضى إلى فوز الفلول. المهم، فرصة أخرى ضاعت ومعها الوقت والجهد والمال. وها نحن فقدنا أهم مزية للانتخابات أولا وهى الاستقرار المؤسسى وكتابة الدستور من قبل أشخاص استقرت مراكزهم القانونية ولا يفكرون فى إرضاء قواعدهم من أجل انتخابات مقبلة. وكان هذا من أكثر عيوب فكرة «الدستور أولا» كما يعيشها أشقاؤنا فى تونس الآن. والغريب أننا نعانيها أيضا؛ لأن المجلس المنتخب تم حله. وعليه فالمصريون، بسبب العشوائية والارتجالية والشك المرضى عند نخبتهم السياسية والإعلامية والثقافية، يدفعون ثمن الاختيارين ولا يستفيدون من مميزات أى منهما.

لماذا أقول هذا الكلام؟

لوجود نمط متكرر من المبالغة فى الطموح من ناحية، والمبالغة فى التخوف من ناحية أخرى. وهناك دول نجحت لأن نخبتها كانت واقعية، وهناك دول فشلت لأن نخبتها كانت غير واقعية. وسأعطى مثالين لدولتين أخفقتا مثلما نخفق الآن: الأولى بولندا والثانية كينيا.. فمثلا بولندا بدأت ثورتها فى عام 1989 وانتهت من كتابة دستورها فى عام 1997 فى تجربة سلبية للغاية بدأت فيها عملية الإصلاحات الدستورية والسياسية الأولية فى عام 1992 وأتت بليخ فاونسا إلى السلطة فى ذلك العام ثم إقرار الدستور الجديد فى عام 1997، ورغما عن وجود حركة تضامن بما تمثله من ثقل سياسى كبير فى الحياة السياسية ووجود ليخ فاونسا كزعيم عمالى له مصداقية عالية بين الثوريين، لكن التشرذم الشديد فى توزيع مقاعد الهيئة التأسيسية للدستور عطل العملية برمتها. فقد تم انتخاب مجلس تشريعى يتكون من مجلسين بمجموع 560 عضوا فى عام 1990. قام هؤلاء بتكوين لجنة من 56 شخصا لصياغة الدستور، وتجسدت داخل اللجنة التباينات الشديدة فى التوجهات الأيديولوجية؛ لذا فشلت اللجنة مع الهيئة التأسيسية فى الوصول إلى نتيجة، فتراضوا على ما سموه «The Little Constitution» أو الدستور البسيط بعد عامين من المناقشات، وهو أقرب إعلان دستورى طويل نسبيا. وبعد انتخابات أخرى فى عام 1993 تم تشكيل لجنة جديدة منبثقة مرة أخرى من المجلس المنتخب، استمعت إلى جميع وجهات النظر بما فيها الأحزاب التى لم تفز فى الانتخابات، لكنها كانت تعبر عن التيار الرئيسى فى المجتمع بالأساس. انتهت إلى مشروع دستور، تم التصويت عليه فى البرلمان، حصل على أغلبية 90 بالمائة فى البرلمان، ثم تم عرضه فى استفتاء عام على الشعب صاحب السيادة عندهم، وحصل على دعم 57 بالمائة من الأصوات. وأرجو ملاحظة أن التوافق لم يكن موجودا فى الاستفتاء الشعبى حتى لا نعتقد أن نتيجة الاستفتاء لو جاءت بأقل من 80 بالمائة فهذا سيعنى حربا أهلية من وجهة نظر البعض.

ثانيا: حالة من الانقسام العرقى والطبقى الشديد عطلت من عملية كتابة الدستور فى كينيا التى بدأت تجربتها الديمقراطية عام 2001 وكانت نقطة البداية «خريطة طريق» بدأت بقانون «مراجعة دستور كينيا»، وكان القانون يمثل إطارا إجرائيا محكما لتحقيق مشاركة شعبية واسعة تتضمن مؤتمرا دستوريا وطنيا كمنبر لتبادل الآراء، فضلا عن لجان استطلاعية انتشرت فى البلاد لمعرفة تطلعات الناس وترجمتها إلى مواد فى الدستور الجديد. وكان من المفترض، وفقا للخطة الأصلية، أن ينتهى هذا الجهد فى عام، لكنه استمر ثلاث سنوات؛ لأن البعض هناك فزع وأفزع الناس خوفا من دستور جديد سريع تسيطر عليه قبيلة معينة. المهم أنه فى ربيع عام 2004 انتهت جهود تجميع هذه الاقتراحات وصولا إلى «لا شىء ضخم»؛ لأن الأغلبية البرلمانية كانت قد انشغلت بقضايا أخرى وتراجعت أهمية فكرة تغيير الدستور إلى أن بدأت المعارضة تدخل فى اعتصامات وإضرابات وغلق طرق. وهنا بدأ المشروع يتحرك مرة أخرى فى البرلمان؛ حيث بدأت الأغلبية، مضطرة، تطرح أفكار الدستور على البرلمان مع تعديلات كبيرة على ما طالب به المواطنون أصلا، من ضمنها أنها أعطت رئيس الجمهورية صلاحيات كبيرة بما فى ذلك حقه فى تعيين رئيس الوزراء دون العودة للبرلمان عكس رغبة أغلبية القوى السياسية. الطريف أن الشعبى الكينى الشقيق فى استفتاء 2005 رفض مسودة الدستور بأغلبية 57 بالمائة من الأصوات. أرجو قراءة الجملة الأخيرة مرة أخرى: الكينيون رفضوا مسودة الدستور لأنه لم يكن ملبيا لطموحاتهم. واستمر العمل بالدستور القديم خروجا على خريطة الطريق الأصلية مرة أخرى وصولا إلى انتخابات معيبة فى 2008 انتهت إلى المزيد من الشغب والعنف، وأخيرا تعلم الكينيون أن الحل اسمه «التزام خريطة الطريق المتفق عليها». وتم تصحيح الأخطاء بتشكيل لجنة من الخبراء السياسيين والقانونيين تم تكوينها من ستة كينيين وثلاثة غير كينيين: واحد من زامبيا وآخر من جنوب أفريقيا وثالث من أوغندا. وقامت اللجنة بعمل خطة عمل تضمنت النقاش المتخصص (حيث لم تقم اللجنة باستطلاع آراء الناس مرة أخرى) حول مواد الدستور المثيرة للجدل (ومعظمها بالمناسبة فى الجزء الخاص بصلاحيات رئيس الدولة وعلاقته بالبرلمان ورئيس الوزراء، أى ما يعادل آخر ثلاثة أبواب فى دستور 1971). كما تضمن عمل اللجنة كذلك إعداد برامج للتربية المدنية والديمقراطية وتدريب الناس على قبول الآخر (وعدم حدف الطوب على بعض). وأخيرا أقر الدستور فى 2010 بأغلبية 67 بالمائة بعد 10 سنوات من الصراعات ودخلت كينيا دائرة «الديمقراطيات الناشئة».

هل هذا ما نريده لمصر؟

كتبت فى 17 مارس 2012 فى جريدة «الشروق» أن مصر بحاجة لدستور لعقد واحد، أى لعشر سنوات.

أنا أكرر نفس اقتراحى، لا بد من الاستعداد لكل الاحتمالات بدءاً بأسوئها، الأصدقاء والزملاء فى الجمعية يقدمون خلاصة جهدهم، لكن سيف الوقت وسيف المحكمة الدستورية قاطعان، وقد لا ننجح فى إنجاز الدستور قبل 12 ديسمبر 2012، إذا كان ذلك كذلك، إذن أقترح على الرئيس وفريق عمله ما يلى:

أولا: البدء فورا فى تشكيل فريق عمل من ثلاثة فقهاء دستوريين غير منتمين حزبيا أو أيديولوجيا إلى أى اتجاه وأن يعهد إليهم بمهمة ذات أربعة أضلاع.

الضلع الأول: أن ينهوا عملهم بصياغة دستور مرحلى (وليس دستورا مؤقتا لسنة أو سنتين) خلال فترة وجيزة؛ بحيث يكون هذا الدستور جاهزا مساء يوم 12 ديسمبر 2012، فإذا قدمت الجمعية التأسيسية مشروع دستور متماسك فى هذا التاريخ، فهذا هو المطلوب. وإذا لم تنجح، فلا بد من وجود مشروع دستور آخر جاهز للاستفتاء عليه.

الضلع الثانى: أن يكون الدستور المرحلى انعكاسا لأهم مكتسبات الثورة المتمثلة فى نتائج استفتاء 19 مارس، وأهم ما كان واردا فى دستور 1923 ومشروع دستور 1954 وأعمال الجمعية التأسيسية الحالية التى أنجزت الكثير من الدراسات والمقترحات.

الضلع الثالث: كل المواد التى عليها توافق فى مسودة الدستور الحالية لا بد من الأخذ بها، وما لا توافق عليه فإما أن يحذف إذا كان مستحدثا ولا سابقة له فى دستور 1971، وإما أن نعود إلى النص كما كان فى دستور 1971 الذى استفتينا عليه عدة مرات، سواء قبل الثورة أو بعد الثورة. ولنتذكر أن «نعم» فى استفتاء 19 مارس 2011 كانت على «نعم» صريحة على المواد المطلوب تعديلها ونعم «ضمنية» على المواد الأخرى التى لم تضمن فى التعديل.

الضلع الرابع: أن يتضمن باب أحكام الفترة الانتقالية نصا يقول فيه: «يستفتى الشعب مرة أخرى على استمرار أو تغيير هذا الدستور فى العام العاشر من تاريخ إقراره فى استفتاء عام...».

العشر سنوات المقترحة لها أكثر من مزية: هى طويلة بما يكفى كى تستقر المؤسسات وتهدأ النفوس وتجرى عدة انتخابات خلال تلك الفترة على النحو الذى تتحدد فيه الأوزان النسبية للقوى السياسية فى الشارع المصرى. ثانيا: ستعطى فرصة للجيل الجديد ممن شارك فى الثورة كى يشاركوا فى صياغة قواعد مستقبل الوطن عبر دستوره. ثالثا: ستسمح لنا هذه الفترة بالانشغال بقضايا أخرى لا تقل أهمية مثل الاقتصاد والتعليم والنهضة بمعناها الكامل.

اللهم إنى قد بلغت، اللهم فاشهد، اللهم فارحم، اللهم فاغفر.

ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا.. ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به.

0 التعليقات:

Post a Comment

 
الحصاد © 2013. All Rights Reserved. Powered by Blogger Template Created by Ezzeldin-Ahmed -