الرسالة التى تلقيناها من تركيا فى آخر أيام سنة 2012 تقول لكل من يهمه الأمر: انتبهوا جيدا، الدولة العميقة أخطر وأعقد مما تظنون. جاءت الرسالة عبر الإعلان فى أنقرة عن أنه تم اكتشاف أجهزة تنصت ومكبرات للصوت مزروعة فى بيت رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان وفى مكتبه. وهو الإعلان الذى أثار الدهشة ليس فقط لأنه مثل اختراقا خطرا لبيت ومكتب رئيس الوزراء، ولكن أيضا لأن الحادث وقع بعد مضى نحو عشر سنوات لتولى حزب العدالة والتنمية للسلطة، الذى خاض خلالها حربا شرسة واسعة النطاق ضد «الدولة العميقة» والخفية التى ظلت تصنع السياسة وتدبر المؤامرات والانقلابات خلال الثلاثين سنة السابقة على الأقل. وكان الظن ان عناصر تلك الدولة تلقت خلال تلك الفترة ضربات قاصمة شلت حركتها، لكنها فى المشهد الأخير أكدت أنها لم تهزم تماما، ولكن لايزال لها نفوذها الذى مكنها من أضيق دائرة محيطة بإعلام مراكز السلطة.
كان السيد أردوغان قد ذكر فى مقابلة صحفية نشرت فى 13/12 إلى أنه يتعرض للتجسس من قبل «دولة خفية»، مشيرا إلى العثور على ميكروفون سرى يستخدم لأغراض التجسس فى مكتبه داخل منزله بأنقرة. واعتبر فى حديثه أن ذلك يشير إلى أن عملية القضاء على الانقلابيين الذين يقفون وراء الدولة الخفية لم تنته بعد. وأن عملا كثيرا لايزال أمامه لتنظيف الدولة من تلك «القوة الفاسدة» التى تعمل فى الخفاء، ومعروف ان مصطلح الدولة الخفية صار يستخدم فى الأدبيات التركية للتعبير عن المجموعة السرية التى تتذرع بالدفاع عن العلمانية والجمهورية فى مواجهة الاتجاهات الإسلامية التى اعتبروها مهددة لمشروع مصطفى كمال أتاتورك. ولأجل ذلك تمددت فى داخل الجيش والأجهزة الأمنية وفى دوائر القضاء وأجهزة الإعلام، فى غيرها من المفاصل الحيوية للدولة، وتوسع نشاطها حتى تحالفت مع مافيات تجارة السلاح والمخدرات والجريمة المنظمة. من ثم كان لها دورها فى الانقلابات العسكرية التى تمت، وفى العديد من جرائم القتل التى وقعت التى أريد بها تصفية الخصوم أو إثارة الاضطرابات أو تشويه صورة الجماعات ذات التوجه الإسلامى.
بعد صدور تصريحات أردوغان تتبعت وسائل الإعلام القصة فى التحقيقات التى تبين منها أنه تم العثور فى بداية العام الماضى على ميكروفونات سرية مزروعة فى بيت رئيس الوزراء. لكن تم التكتم على الموضوع آنذاك من أجل معرفة الجهة التى وقفت وراءها. وفى أعقاب ذلك جرى تفتيش كل المقار التى يتردد عليها أردوغان، بما فى ذلك مكتباه فى رئاسة الوزراء والبرلمان. وهناك عثرعلى ميكروفونين من النوع ذاته مزروعين فى المكتبين. الأمر الذى عزز الاقتناع بوجود جهة منظمة ومحترفة وراء العملية.
فى سياق مواجهة الاختراق الذى أزعج السلطات والأجهزة المعنية، تم تغيير كل طاقم الحراسة الخاص بأردوغان فى شهر سبتمبر الماضى، بعدما اتهموا بالتقصير والإهمال فى حماية الرجل وتأمين دائرته الضيقة. وقد ذكرت قناة «دى» التركية أن الميكروفونات التى ضبطت يستخدمها عملاء جهازى «كى. جى. بى» الروسى والموساد الإسرائيلى، الأمر الذى أشار بأصابع الاتهام إلى ضلوع مخابرات البلدين فى العملية. إلا أن تصريحات أردوغان وعدد من المقربين منه أوحت بأن الجهة التى وراء التجسس تركية بالأساس، لكنها استعانت بأجهزة متطورة من الخارج، فى حين لم تستبعد احتمال أن تكون الجهات الخارجية قد استفادت من عملية التجسس فى شكل مواز. خصوصا أن عناصر الدولة العميقة لها خطوط اتصال مع الجهات الخارجية المعنية بمواجهة النظام الحالى، وفى مقدمتها إسرائيل بطبيعة الحال. وقد أثار الانتباه فى هذا السياق ان الشائعات تحدثت فى تركيا عن وجود أجهزة تجسس مماثلة فى مقار أحزاب المعارضة، وقد أعلن حزب السلام والديمقراطية الكردى أنه عثر على بعض تلك الأجهزة فى عدد من مكاتبه، إلا أنه وجه التهمة فى ذلك إلى أجهزة الأمن التركية.
حين وقعت على القصة استحضرت شريط الوقائع المريبة التى شهدتها مصر بعد الثورة بدءا من القناصة المجهولين الذين قتلوا المتظاهرين ومرورا بضبط أحد ضباط المخابرات وسط الذين هاجموا مقر جماعة الإخوان فى الإسكندرية. والشكوك المثارة حول دور بعض عناصر الأجهزة الأمنية فى حملة إحراق والهجوم على 26 مقرا للجماعة. وانتهاء بحملات البلبلة والترويع التى جرى الترويج لها أخيرا، والتى تحدثت مثلا عن إفلاس مصر.
ليس لدينا أدلة كافية على أن أصابع الدولة الخفية وراء كل حملات التوتر وإشعال الحرائق المختلفة فى أنحاء مصر، لكن طالما ظل الفاعلون مجهولين، فلا غضاضة فى أن تفكر بشكل جاد فى دور للدولة الخفية التى لا استبعد أن تكون تحت التكوين فى مصر. علما بأن أصحاب المصلحة فيما يجرى معروفون، ولكن الفاعلين لايزالون مجهولين، وتلك بعض تعاليم مدرسة الدولة الخفية فى تركيا.
0 التعليقات:
Post a Comment